فكر وثقافة

الصدق والكذب في حياتنا

إذا سقطت القيم في مجتمع ما، سقط المجتمع كله، ما لم ينتشل من حافة الهاوية بفعل تاريخي استثنائي.
والصدق هو سيد الأخلاق بلا منازع، وإذا تخلى مجتمع عن الصدق، وأصبح الكذب هو الشائع، انهارت الثقة بين أفراد المجتمع، وظلم فيه الصادق، لأن الناس يكذبونه، وهو لا يكذب، فمن خصال الكذاب إنه لا يُصَدِّق أحدا، لأنه لا يَصدُق أحدا.
البعض يمارس ما يسمى بالتورية، فهو يقول لك شيئا، لا يكون فيه كاذبا، طالما جرى الالتزام حرفيا بالعبارة المنطوقة، ولكنه يقولها على نحو يجعلك تفهم ما هو خلاف الحقيقة.
ليس الكلام عن الكذب اضطرارا، فهنا لا بد من التمييز بين الصدق والكذب، كقيمتين أخلاقيتين عُليى وسُفلى، وبين الصدق عندما يتحول إلى سلوك أخلاقي سيئ، عندما يترتب على الصدق في غير محله ضرر يعتد به، وفيكون الكذب استثناءً كسلوك وليس كقيمة، سلوكا أخلاقيا حسنا، وليس كقيمة، عندما تتوقف مصلحة يعتد بها على الكذب، كإنقاذ حياة إنسان، أو تجنب فتنة، أو ضرر يعتد به. لكن هذا لا يغير من حقيقة أن الصدق هو الذي يبقى يمثل القيمة الأخلاقية العُليى، وأن الكذب يبقى يمثل القيمة الأخلاقية السُّفلى. ولا بد عند الاضطرار، بشرط أن يكون اضطرارا حقيقيا، وليس اضطرارا مُدَّعىً كتبرير للكذب القبيح، أن يُقتصَر فعلا على الحد الأدنى من الكذب، بمقدار ما يتطلبه الاضطرار، ودون تعدي حدود الاضطرار.
وقد يقول قائل إني لا أستطيع أن أبوح بكل ما عندي، فهناك مما يباح به ما يعود على قائله أو على شخص ثالث بضرر. وهنا يرد إن الصدق لا أن تقول كل الحقيقة، بل ألّا تقول ما هو خلاف الحقيقة، فذاك هو تزوير الحقائق، وليس أن تفصح بالضرورة عن كل قناعاتك، لكن ألّا تتكلم خلاف قناعاتك، فذاك هو النفاق، وما أقبح وأذمّ النفاق. لكن ليس كل سكوت عن ثمة حقيقة مقبول، فبعض السكوت عما لا يجوز السكوت عنه، وعما يسبب السكوت عنه ضررا، هو أيضا من الكذب.
ومن أقبح الكذب هو الكذب الشرعي عند المتدينين، لأن القبح المتمثل بالكذب يمارس باسم الله، وبرخصة مدعاة من الله.
الكذب يتخذ صورا شتى، فمنها الغش، والتزوير، وشهادة الزور، ومنها النفاق، والتملق، والمجاملات المبالغ بها، ومنها ما يسمى بالتقية، من غير مُسوِّغ أو مبرر. ومن أقبح الكذب، والكذب كله قبيح، هو الافتراء، ومن الكذب الانتحال، أي انتحال شخصية أخرى، أو انتحال صفة، ومنه إضفاء اللقب الأكاديمي الزائف.
ومن أسوأ ما هو شائع من مبررات الكذب، هو كذب السياسيين، بدعوى أن السياسة لا تسمح بالصدق، بل تتطلب الكذب. بينما السياسة في حقيقتها إنما هي إدارة الشأن العام، ورعاية الصالح العام، بهدف تحقيق أقصى الممكن من المنفعة للمجتمع، ودرء أقصى الممكن من الضرر عنه، والارتفاع إلى ما هو أفضل، وأكثر عدلا، ورفاهية، وتقدما. إذن السياسة هي رسالة إنسانية، ورسالة وطنية، لأن الذي يحمل الهمّ العامّ هو الذي يكون سياسيا، ومن يحمل الهم العام، لا بد أنه يتحلى بنزعة إنسانية تدعوه إلى حمل الهم العام، والاهتمام بالصالح العام، وذو النزعة الإنسانية لا يمكن أن يتحلى بها، ما لم يتحلَّ بسموّ الخلق، وحيث إن الصدق هو سيد الأخلاق، فلا بد أن يكون صادقا. صحيح بعض الصدق يربك الواقع الذي قد يتهز بصدمة مواجهة بعض الحقائق، وقد يضيع الصدق فرصة مهمة، أو يؤدي إلى ضرر، كأن يثير فتنة، ولعله اقتتالا. ونحن قلنا إن الكذب عند الاضطرار، وحصرا عند الاضطرار، وعند الاضطرار الحقيقي فقط، جائز، بل راجح أحيانا، بل واجب في بعضها. لكن السياسي لا يكذب، بل يمكن أن يسكت عن بعض الحقائق، ويحتفظ لنفسه ببعض القناعات، إذا كان يترتب على البوح بهذه أو تلك ضرر يعتد به. ونحن نتكلم هنا عن الضرر المنعكس على المجتمع، وليس على المصلحة الشخصية للفرد أو الجماعة السياسية (الحزب) على حساب الصالح العام.
الكذب بداية السقوط الأخلاقي، فحتى السرقة على سبيل المثال، فهي لون من ألوان الكذب، فتملُّك السارق لما لا يمكله، هو دعوى امتلاك، أو بتعبير آخر هو امتلاك كاذب، علاوة على أنه اعتداء على حقوق وأملاك الآخرين.
وهناك لون من الكذب، يتوهم ممارسوه إنه من نوع الكذب البريء، أو الكذب الذي لا يترتب عليه ضرر لأي أحد. هذا النوع من الكذب يصطلح عليه تجميلا له بالكذب الأبيض، دون الالتفات إلى أن الكذب كله قبيح لا يُجمَّل، وكله أسود، لا يجوز نعته بالأبيض، فهذا النعت يحوله إلى كذب مركب، فهو كذب بذاته، وفوق ذلك ينعت كذبا وزورا بالكذب الأبيض. ولو غضضنا النظر عن قبح الكذب، واعتبرنا تسامحا إن هذا النوع من الكذب لا يضر أحدا، لكن في الواقع إن لهذا اللون من الكذب مع هذا مجموعة أضرار، نذكر هنا بعضها:
1. الكذب الأبيض يجعل الكذب عند ممارس هذا اللون من الكذب أمرا معتادا، وبالتالي، مع فرض أن هذا الكذب كذب أبيض حقا، سيسهل على صاحبه ممارسة الكذب الأقل بياضا، فالكذب الرمادي، ثم الكذب الأسود.
2. ثم لهذا النوع من الكذب ضرره، عندما يفتضح، فيسبب حرجا لصاحبه، ثم يضعف ثقة من اكتشفوا كذبه به فيما هو أهم مما كذب فيه كذبته البيضاء.
3.  وضرر الكذب الأبيض، هو أن المكذوب عليه، قد خُدِع، وانطلت عليه الكذبة البيضاء، فهل يا ترى يحب ممارس الكذب الأبيض أن يُخدَع ويُغَشّ ويُكذَب عليه؟
4. اعتياد الشخص على الكذب الأبيض، أو غير الأبيض، يجعله يتصور إن غيره يمارس نفس الممارسة، مما يؤدي إلى زعزعة الثقة بين أفراد المجتمع، بحيث يحتمل كلٌّ كذب كل رواية أو حادثة أو قول أو شهادة.
لذا أقول ينبغي ألا نقبل بالكذب الذي يكون بنوايا حسنة، كي لا نمنح الفرصة والمبرر والأرضية للكذب بنوايا ما دون ذلك.
وشيوع الكذب في مجتمع ما، سواء الكذب الأبيض، أو الرمادي الفاتح، أو الرمادي الداكن، أو الكذب الأسود، يفرز مجموعة ظواهر أخلاقية مرضية في المجتمع. منها إن الكاذب، بل حتى غير الكاذب في مجتمع يتفشى فيه الكذب، سيُكذِّب الصادق والكاذب على حد سواء، فعندما يكذب الصادق، سيظلمه، وعندما يكذب الكاذب، سيكذب عليه هو الآخر بالتظاهر بتصديقه، بينما هو مكذب له في قرارة نفسه، وهكذا يفعل مع الكاذب، وهناك يكون الضرر مركبا ومضاعفا.
وأسوأ الكذب هو كذب السياسيين، لأن السياسي يفترض فيه أن يكون من النخبة، فإذا فسدت النخبة، فسدت العامّة. فكيف يكون الحال مع سياسيين كذابين، فاسدين، سرّاق، مزوّرين، والكثير منهم قتلة، وكثير جدا هم المتسترون على الفاسدين والقتلة والكذابين؟ كما إن أسوأ الكذب هو كذب المتدينين، ويتضاعف سوء وقبح الكذب، عندما يمارسه السياسيون المتدينون، أو ما يسمون بالإسلاميين، وكم هم.
إذن نحتاج إلى إصلاح أخلاقي قبل كل شيء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى