الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

مغــــــــارة العشــــــرة

قصة: نايف النوايسة
تتهادى بي الطريق على هودجها المرتعش وتتقاذفني ثعابينها المتلوية وتسحبني إلى جحور العتمة وتجاويف الصمت.
قلبي كرة حائرة لا تستقر في مكان..
أنا مسكون بالرعب من لوثة الأماكن.. كل ما حولي يُرسل عزيفه بلا رحمة.. عفاريت الوادي تتعامد مع الأفق وطوّقتني بمليون وجه..
أكلما دنوت من نفسي لأزيح عنها هذا العهن المحروق وأتصالح مع أبجديات اللحظة تقفز لي من الشارع الخلفي دبابيس تخترقني من كل مكان، ثم تصطرخ في رأسي وكأنها تطلب ثأراً، أو جذبها مغناطيس زرعه الخوف في مسامات جلدي؟؟
****
الوادي يسحبني مثل خيط هزيل.. يلوكني بين شدقيه وأنا أتوغل في أحشائه.. ما أخشاه هو أن تلمحني المغارة المرعبة من بعيد وتجذبني بذوائبها المنتنة، ثم تفتح فمها على اتساعه حين أصل المنعطف الذي تلوذ خلفه.. وكلما تجرني الطريق نحوها تقفز الدماء إلى نصفي العلوي فأحس بالشلل يجتاح أطرافي.
شعري منتصب وكأنه مُقبل على معركة دامية.. عيناي كعيني ضفدع يجوسان في المكان وترصدان كل شاردة وواردة.. قلبي طابة أولاد يتقاذفونها بكل رعونة.. كلما دنوت تفور الأرض مردة وعفاريت تتسابق على سلالم نفسي المرتعشة..
المغارة تقترب.. هي مني قاب رمشتين أو أدنى.. كنت غاطساً في زاوية تائهة بين اليقظة والغشيان.
****
سيارتي تتأرجح فوق الطريق مثل سيدة عرجاء فقدت عصاها.. الخوف سيد متجبر في هذه اللحظة..
على حين غرّة اصطدمت عيناي برتل من السيارات واقفة وقد سدت الطريق.. حاجز مروري عليه(احذر، ورشة عمل/ممنوع المرور)..
ما الذي يجري؟ هل ألقوا القبض على الغولة وأولادها؟ ضحكت ووشوشت في نفسي: أما زلت تصدق الحكاية؟ يرف القلب: وهل تكذِبُ الحاجة بخيتة؟ نزعت نفسي من هذا الخاطر ورحت أتابع..
آليات كثيرة متشبثة بالتلة وتجعر بوجه المغارة وتُهتّم أسنانها.. المغارة تئن وتتوجع من ضربات الآليات.. فمها الذي التهم الناس بلا رحمة بدأ يتوارى.. كنت خائفاً من المشهد.. لا مفر أمامي من النظر الآن.. الوادي الضيق يحشرني في صندوق من الرعب، والموت يراودني من كل ناحية.
****
شخير الفرس واضطرابها تحت فارسها الخائف والكائن الغريب الذي التصق بقفاه.. العجوز بخيتة تضيء اللحظة ببسمتها الناعمة وهي تؤكد وجود الغولة وأولادها العشرة في المغارة.. العرق يغطي جبهتي كلما وقعت عيني على المغارة التي تهاوت مثل بيت العنكبوت..
الناس ينزلون من مركباتهم.. يقتربون من الحاجز بحذر وتردد.. كنت مشدوداً إلى مقعد سيارتي بأمراس من الخوف شديدة الفتل.. هل أفكها؟ وكيف؟ ما زالت المغارة تسكنني.. آلاف الصور تتناثر مني مثل بركان يقذف حمماً من الجن والغيلان والعفاريت..
****
الفرس تطير من الخوف وفارسها ملتصق بسرجه، والعفريت المتشبث به يتبعه مليون عفريت.. ما هذه المغارة يا حجة بخيتة؟ يأتي صوتها من قاع بئر منحوتة في التاريخ: هي كما رأيت.. الغولة تحتل العقول وتسلب الناس ألبابهم ثم تحملهم إلى المغارة لتقدمهم لأولادها على وجبة العشاء..
المغارة اختفت يا حجة بخيتة.. لا أسمع صوتك.. أين ذهبت، أين ذهبت يا حجة؟ علا صوت الآلات أكثر.. الحجة بخيتة في علم الغيب.. المغارة الآن ساحة صراع بين الآلات والغيلان.. يتصاعد الغبار.. أرى على وجه الغبار مرايا للرعب.. أخفي رأسي بين كفيّ وأسدّ أذني لأمنع زحف الضجيج الذي أحاط بي من كل مكان.
****
أهرب إلى عين الست الملتصقة على كف الوادي، فتلحقني غولة طالما حذرتني منها الحجة بخيتة: انتبه يا بني إنها ستناديك باسمك! وأحجم عن ارتياد العين.. كائنات غريبة تتطاير مثل الذباب حولها، وتشرب وتمنع الناس من الشرب مثلما روت لي الحجة بخيتة ذات حكاية..
انكمش مرعوباً في سيارتي.. الناس يتكاثرون مثل الذر على حبة الحلوى.. هدير آلات الحفر يطحن الصمت ويثير غضب الغيلان فتصطرخ أصواتها في رأسي.. سأنزل الآن وأهرب، ولكن إلى أين؟
****
فم المغارة يختفي.. جدرانها تتناثر أشلاء هنا وهناك وكأنها غيلان متحولة تتجهه نحوي، وما داخل هذه المغارة..؟ أكوام من التراب والقمامة وبقايا أثاث بالٍ..
الجرافات تسحب التراب إلى الوادي بين يدي عين الست..
فتحت باب السيارة بحذر، واقتربت من القوم المتشوّفين.. اندسست بين رجلين ينظران بعناية؛ قال أحدهما: هل رأيت الكنز؟ قال الآخر: أي كنز يا رجل في هذه المغارة المخيفة؟ سأله الأول: مخيفة بماذا؟ قال الآخر: يقال أنها كانت مسكناً للجن والعفاريت.. لم أشأ التدخل بينهما.. دنا منهما رجل ثالث كان يسمع حديثهما وقال: لا كنز ولا جن، هذه المغارة لجأ لها عشرة هاربين من القانون وتحولوا إلى قُطاع طُرق وحاصرتهم الدولة في زمن قديم وقتلتهم، وصارت أصواتهم تصرخ في الليل.. وكثر الحديث حول المغارة إلى درجة الغثيانٍ..
إذاً، أنا لست وحدي في أرباق هذه المغارة اللغز.
****
كانت رجلاي تهتزان؛ أمِن الخوف أو من الدهشة، لا أدري؟! وأنا ــ للحق ــلم أخرج من رهبة المغارة بعد، وما برحتِ الذاكرة تهيل علي من أوراقها الشيء الكثير؛ حين غابت عليّ الشمس ذات زمن عند الجسر التركي، ولم أجد سيارة تحملني وكنت فتىً يانعاً أخاف من(الريشة الطائرة)، سرت والوادي ولا مفر من المرور بين يدي المغارة.. شعري صار كومة قش.. دمي قفز إلى وجهي.. قلبي لا يستقر في مكان، وتخلصت من قبضة المكان مثل طائر طريد تلاحقه آلاف الجوارح..
وفي كل الصباحات التي كنت أباكر فيها المدرسة تلاقيني المغارة بفمها المخيف.. مزروعة فيّ حتى ظننتُ ألاّ فكاك منها..
للخوف ألوان لا تُحصى..
****
غاب فم المغارة الآن.. وبان بياض جميل تحت جلدها المُجعّد.. الحفارات تفننت في تجميلها.. أرى الآن واجهة جبلية مغرية لكتابة قصيدة أو رسمة لأقحوانة ندية.. دنوت أكثر من المكان كالآخرين..
أثرٌ بعد عين صارت مغارتي المعتّقة في الذاكرة والحكايات..
أنفاس الحجة بخيتة تسد أذنيّ.. شراذم الغيلان تتوارى خلفي معربدة.. عين الست تضحك وتُرسل ماءها رقراقاً.. لكنني ما زلت خائفاً!!!
****
نزل من الجرافة الأخيرة شاب صغير.. أشعل سيجارته وابتسم وهو يعاين مكان العمل، وقال لرجل بجوارنا: بقي شيء يا معلم؟ رد الرجل وقد بدا الحبور على وجهه: اشكرك..
كلنا ممتلئون بالأسئلة؛ ما الذي جرى؟ وماذا بعد؟ اقتربت من الرجل، وتجرأت بسؤاله سؤالاً جامعاً: ما حكاية المغارة؟
رماني بنظرة ثم استدار ليراه الجميع وقال: هذه المغارة من أرضي وكانت مأوى للخارجين على القانون منذ زمن بعيد وحتى هذه اللحظة، وكانوا يروّعون الناس بشتى فنون الشيطنة، فأزلتها وسيقوم مكانها مصنع للطباشير والأقلام..
****
غمرني إحساسٌ طاغي السرور وأنا أفارق المنطقة.. الوادي يرقص والجبال في جوقة فرح وعين الست توزع ماءها مجاناً، ورددت: للوهم سطوته، وله صُنّاعُه، ونحن بدون العقل من ضحاياه..

الدستور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى