الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

عزيز باكوش: مرتفعات ويذرينج لإيميلي برونتي أو الحب ذاك الوحش المدمر

عزيز باكوش
لعل لذة الحكي وجاذبية السرد، ومتعة الانصات لنوازع النص الروائي عند «إيميلي برونتي” في روايتها المذهلة ” مرتفعات ويذرنج ” تقودنا حيث تريد الكاتبة وروح الإبداع أن نكون . بل إن طعم الحب والحقد الجاذب في قراءة هذا العمل الروائي البديع والممتع هو هذا الاقتناص الحامل لتناقضات ونوازع الذات البشرية . هناك تحديدا تبدأ القصة . كان السيد ايرنشو مسافرا إلى عمل في المدينة، حين قادته الصدفة إلى العثور على طفل صغير، جائع يتيم ومتشرد في الطرقات. والسيد إيرينشو من فرط حبه للطفل الذي كان أسود البشرة وشعر مجعد لم يكتف بصحبته على الفور إلى البيت ، بل تعدى ذلك إلى تبنيه بعد أن أطلق عليه إسم هيثكليف
لكن سفينة إيرنشو الأبوية سوف لن تسير وفق رياح أسرته ، إذ منذ اليوم الأول، سيكره الجميع هيثكليف فولده هندلي سيعتبر أن هيثكليف يأخذ مكانه في قلب أبيه ،فيغار منه ولا يتوقف عن إلقاء ألوان العذاب عليه، أما ابنته كاثرين وعلى خلاف أخوها هندلي ، فقد استأنست به، وأصبح صديقها المفضل ، فكانا يقضيان الوقت في اللعب والمرح في المروج . وكلما ساءت معاملة هندلي لهيثكليف، يصبح هيثكليف الأقرب إلى كاترين ومحبوبا أكثر لدى ايرنشو الذي لا يتردد في معاقبة هندلي على افعاله . وحين ماتت السيدة ايرنشو أرسل السيد ايرنشو هندلي إلى مدرسة عسكرية نتيجة لسوء سلوكه ومعاملته السيئة لهيتكليف. وعلى الرغم من هذا الولد الأسود البشرة ،الدخيل على أسرة ايرنشو كان بريئا ولم يقلل من احترام أحد في المنزل ، إلا أن الإساءات ظلت تتقاطر عليه من كل الجهات ، لا سيما من هندلي وكان يرد بالصمت . مما جعله ينعم بحب واهتمام والده بالتبني السيد ايرنشو الذي جعل منه تلميذا يدرس جنبا إلى جنب مع كاترين التي توازيه سنا.
لكن بوفاة السيد إيرنشو تغيرت كل معادلات البيت في المرتفعات . سيعود هندلي وقد بلغ 20 سنة من عمره إلى البيت لكنه ليس وحيدا ، بل برفقة زوجته وهي امرأة جميلة راقية ولطيفة مع الجميع . لعل أول رد فعل انتقامي قام به هو فصل هيثكليف عن الدراسة، ونقله إلى مرتبة الخدم ويحرمه من رؤية كاترين التي تعلق بها كثيرا . فهندلي لم ينسى سوء المعاملة وعجرفة هيثكليف ومعاملته القاسية التي كانت سببا ودافعا وراء ذهابه إلى المدرسة العسكرية . وبالموازاة مع ذلك ، انصاعت المسكينة كاترين لقدرها وظلت محبوسة في غرفتها تنام وتستيقظ ،وهي لا تعي شيئا مما يحدث. بعد أن توفي والدها وتم إبعاد عنوة عن هيثكليف أو إبعاده عنها . وسرعان ما سيتحول هيثكليف إلى فتى قذر سيئ الطباع بسبب أعماله الفلاحية المنهكة في المزرعة، واعتبارا لسوء المعاملة والعنف الجسدي الذي يتلقاه من هندلي باستمرار. ما جعل هيثكليف يشبه حيوانا شرسا بقلب لا يتوفر على أي اثر للإنسانية .

استلهمت الكاتبة إيميلي برونتي روائية وشاعرة بريطانية اسم روايتها ” مرتفعات ويذرنج ” من ضيعة في مروج يوركشير وهي بلدة تاريخية في شمال إنجلترا. وظهرت روايتها للمرة الأولى عام 1847 تحت اسم مستعار هو إيليس بيل. لكن أختها شارلوت برونتي ستجري تعديلات على الطبعة الثانية من الرواية بعد وفاة إيميلي المبكرة في الثلاثين من عمرها . وتحكي هذه الرواية بعجائبية مفرطة للغاية قصة حب جارفة ربطت بين بطلين هما كاترين وهيتكليف . وبمجرد الانتهاء من قراءة هذه الرواية، ترتسم في ذهن القارئ ذكاء الكاتبة وجمالية اختيارها مرتفعات ويذرنج هايتس بالريف الإنجليزي تخليدا رائعا لمسرح أحداث الرواية كي تبرز سطوة المكان وتأثيره على مشاعر أبطالها وشخصياتهم ونمط السلوك لديهم ، و تنسج بفيض متدفق حميم نوعا من التماهي الرئيف بين الطبيعة والبشر”. كما سيتضح بجلاء إلى أي حد يصل الحب الجارف بصاحبه إلى الحقد اللعين . وكيف يتحول هذا الحب المحموم إلى آلة دمار حقيقية لذات البطلين أولا، قبل أن يستمر في الفتك بالمشاعر الآدمية وتدمير ذوات أخرى بنفس الضراوة والشراسة الممعنة في الحقد والانتقام الذي لا يتقادم مع مرور الزمن .
في منجزها الروائي الوحيد “تصور لنا إيميلي برونتى الحب وحشا مدمرا ، فتجعله لا يكتفي بتحطيم الفرد وتحريضه على الانتقام من كل شيء بشراسة ، والاقتصاص من كل ما يقف في طريق تواصله مع من يحب ، بل تبدع بالموازاة مع ذلك،في تصوير الضعف الإنساني في بعض تجلياته الوحشية كذلك ، ذلك الضعف الذي يفيض جنونا ودمارا ، وينسكب جداول وأنهارا ليجعل من صاحبه مجرد حطام إنسان، أوبقايا وأشلاء هشة مبعثرة في الحياة ، ولنكئ الجراح ،نجد الحب نفسه يقف بعناد على أطلال روحه، ويعاود الرجوع إلى مواطن عشقه الأول منقادا طيعا .
في تقديم مكثف ودقيق للرواية،نفهم أن أحداثها جرت في منتصف القرن التاسع عشر، حيث كانت المنطقة تعج بالتناقضات والصراعات. وقد تم الاشتغال عليها سينمائياً في أكثر من عمل، كالعمل الذي أخرجه وليام يلر سنة 1939 ونال حينها العديد من الجوائز. وبرأي النقاد ،فإن رواية مرتفعات ويذرنج» علامة فارقة فى تاريخ الأدب الإنكليزى . وهى الرواية الوحيدة لكاتبتها إميلي برونتى التى هى واحدة من الأخوات برونتي، وهن ثلاث كاتبات شقيقات – شارلوت- إميلي و -آن – ومن الغرابة أن يعشن الأخوات الثلاث عزلة غريبة ،وينجزن أعمالا أدبية فائقة الروعة . فأبدعت شارلوت برونتى «جين إير» و آن برونتي كتبت “أغنيس راى” و “نزيل قاعة ويلدفيل.”
التحقت إميلى برونتي بالمدرسة بعد فترة قصيرة من وفاة والدتها المريضة كانت برونتي تبلغ من العمر ثلاثة سنوات آنذاك . وبعد أن اجتاح مرض التيفوس المدرسة ،اصيبت كلا الأخوات «ماريا، واليزابيث بالمرض ذاته. وارسلوا إلى البيت حيث توفيت «ماريا » هناك. ونتيجة لذلك أبعدت «برونتى» عن المدرسة خوفاً من انتشار وتفشى العدوى. توفيت اليزابيث» بعد فترة قصيرة من وفاة اختها الأكبر «شارلوت». وبقيت «برونتى» وثلاثة من اخواتها واخيها باتريك حبيسين المنزل حيث تلقوا التعليم على يد عمتهم اليزابيت
وفي التقديم ذاته ،نتعرف على مسقط رأس الكاتبة وظروفها الاجتماعية البئيسة . فإيميل برونتي التي رأت النور في مقاطعة يوركشاير من أبوين فقيرين أنجبا ثلاث بنات تم ارسالهن إلى مدرسة للبنات ، سيعانين من سوء معاملة وجوع وحرمان . وقد عبرت عن ذلك بعاطفة قوية ومؤثرة شارلوت برونتي في كتاب شارلوت جين أير». ونقتنع حد اليقين بالأسباب التي جعلت شخصية إميلي برونتى تتسم بالغموض والانعزالية ،وميلها الشديد إلى العيش منفردة ،حتى أنها لم تكن تغادر عتبة بيتها إلا نادرا . وبدت لنا أنها من النوع الذي ليس لديه أصدقاء خارج العائلة . كانت برونتي تبلغ من العمر ثلاثة سنوات عندما توفيت والدتها المريضة. ومع مرور الوقت تتكالب الظروف لتعزز ميولها إلى العزلة . ولعل هذا ما يفسره اختيار منطقة ” مرتفعات ويذرينج هايتس ” في الريف الإنجليزي ذلك المكان الهادئ والجذاب لكن المعزول عن العالم أيضا . أما المرتفعات، لم تكن تضم سوى منزلين فقط، يقطن في المنزل الأول عائلة ايرنشو ، وزوجته السيدة ايرنشو وولداهما (كاثرين وهندلي ) . وفى المنزل الثاني الجرانج الذى كان طقسه ربيعياً جميلاً على الدوام كانت تقطنه عائلة لينتون وتتألف من السيد والسيدة لينتون، وولداهما ادغار وإيزابيل ، بالإضافة للخدم.”
لابد من الإشارة إلى أن جميع المحاولات التي قادتها الخادمة في جعل هيثكليف يتغير فشلت . لكن الشيء الوحيد الذي ظل محور حياته هي كاثرين التى كان يحبها أكثر من نفسه. ورغم أن هندلى شقيق كاثرين كان يمنعها من التحدث إلى هيثكليف ويعاقبها حين تقابله. فنقرأ في الرواية ” أنهما كانا كثيراً ما يخرجان معاً. يتجولان ويمرحان في الحقول، وقد كانت طباع كاثرين شبيهة جداً بطباع هيثكليف، فقد كانت فتاة أنانية برية وعنيدة تستفز كل من حولها ،ولا تظهر صفات البنات الراقيات من بنات جيلها. تتطور الأحداث وتتسارع . وتتزوج كاثرين من إدغار لينتون صديق أيام الطفولة لنفوذه وثروته . وبعد إصرار من هندلى لكي يبعدها عن الخادم” هيثكليف” ، لكن يبقى حب هيثكليف قويا ومسيطرا عليها . أما إدغار فشخصيته هي شخصية السيد الهادئ والراقي، يحب كاثرين بشدة ويعاني هو أيضاً من حبه لها ومن صداقتها لهيتكليف. ومع استمرار الأحداث وتطورها بالمرتفعات نكتشف أن هذا الزواج المفاجئ لكاترين يحطم قلب هيثكليف إلى الأبد. بعدها ولتخفيف الصدمة ، سيتقرب هيثكليف من ايزابيلا لينتون شقيقة إدغار الصغرى، حيث تنخدع بشخصيته خاصة بعدما يعود غنيا من غربة طويلة. فيتزوجها فقط كى يحطمها هي وعائلتها ،ولينتقم خاصة من أخيها الذي تزوج كاثرين. وبسبب القسوة والحقد والشراسة التي يتعامل بها هيتكليف مع الآخرين وسوء المعاملة لها تستطيع ايزابيلا في النهاية أن تهرب من المنزل وتعيش مع ابنها لينتون بعيدا عن الآخرين إلى أن تموت . فيعود لينتون إلى والده هيثكليف . وفي السياق الانتقامي ذاته ، تموت كاثرين ايرنشو الأم حبيبة هيثكليف أثناء ولادتها لابنتها الجميلة كاثرين لينتون ابنة غريمه إدغار لينتون. “
وتتسارع الأحداث المتشابكة للأسرتين ،” تعيش كاترين ارينشو طفولة سعيدة نسبياً مع والدها دون أن تعرف أي شيء عن تاريخ أسرتها المظلم، إلى أن تقع في حب لينتون هيثكليف، لكنها سرعان ما تكتشف أنه كان يخادعها بأمر من والده بهدف الحصول على ثروتها، إلا أنها تتزوج منه مرغمة بعد حبسها وتهديدها. بعد وفاة زوجة هندلي نكتشف أن حياته تغيرت على نحو غير مخطط له ، أصبح سكيراً ومدمنا على القمار . حيث خسر ثروته وأملاكه لصالح هيثكليف. وتنتهي الرواية بأن ” يأتي في النهاية هيثكليف ليسدد عنه ديونه ويسمح له بالبقاء في البيت امعاناً في إذلاله والإساءة إليه. ويتبنى ابنه هاريتون إرينشو ويسيء معاملته جداً انتقاماً من المعاملة. السيئة التي كان يلاقيها هو من والده هندلي بعد أن سمم حياته بالحقد على الآخرين، وبعد أن سمم حياة كل من حوله، وقبل أن يسيطر على أموال العائلتين ايرنشو ولينتون يموت هيتكليف ثم يموت ابنه الضعيف الشخصية لينتون ليرتبط هاريتون وكاثرين بالرباط المقدس وتعود أملاك الأسرتين لأولادهما . في الوقت الذي أُشيع أن هناك شبحاً يتجول في المنطقة في الليالي الممطرة والمظلمة في الحقول وقرب الكنيسة!”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى