فكر وثقافة

خيرالدين حسيب المُفكّر القومي العربي الذي حارب الطائفيّة وانتصر لنهضة أمّته.. ورفض عَرضًا برئاسة بلده تحت حِراب الاحتِلال.. وجعل من فِلسطين بُوصَلته.. نقول وداعًا

الغواص نيوز

خَسِرَت الأمّتان العربيّة والإسلاميّة واحدًا من أهم أعلامها، ورموزها السياسيّة والثقافيّة بوفاة الدكتور خيرالدين حسيب، مؤسس وأوّل رئيس للمؤتمر القومي العربي، ومركز دراسات الوحدة العربيّة، والوزير ومحافظ البنك المركزي العِراقي الأسبق.
إنّه قامة وحدويّة عربيّة بكُل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وكان همّه الأكبر كيفية نُهوض أمّته على أرضيّة من قيم إسلاميّة وعربيّة، بِما يجعلها تستعيد دورها ومكانتها التي تستحقّها في مُقدّمة الأمم.
لا يعرف الحقد، ولا النّزعة الثأريّة في التّعاطي مع خُصومه، ناهيك عن مريديه الكُثر، حتى أولئك الذين اعتقلوه، وعذّبوه في غُرف الموت المُظلمة خلف القُضبان لأنّه قال كلمة حق في وجهِ سُلطانٍ جائر بشجاعة ورجولة، وترفّع عن كُل أشكال الطائفيّة البغيضة، وكانت فِلسطين بوصلته الدائمة، ومقياس حُكمه على الأفراد والحُكومات والدول.
وقف دائمًا في خندق وطنه الأصغر، وانتصر له في جميع معاركه، وعندما وقع هذا العراق العظيم في مصيدة الكويت التي أعدّتها أمريكا بإحكامٍ للإطاحة به، وتدمير نهضته العلميّة، وجيشه العظيم، لم يتردّد لحظةً في الوقوف في خندق العِراق حتى لو كان إلى جانب من اعتقلوه، وعذّبوه، ويترفّع عن مظلوميّته الشخصيّة من أجل الدفاع عن وطنه.
عرض عليه الأمريكيّون أن يكون رئيسًا للعِراق في الأيّام الأخيرة للحرب العِراقية الإيرانيّة، ونقل إليه هذا العرض أحد الوسطاء، مثلما كشف لنا هذا السّر بكل تفاصيله، فطرد الوسيط، وجاهر بوقوفه في خندق وطنه رُغم مُعارضته لهذه الحرب التي يَصِفها بواحدةٍ من أكبر الفتن في تاريخ الأمّة.
وعندما نؤكد في هذا المنبر أن خيرالدين حسيب لم يكن طائفيًّا، وإنّما وحدويًّا على المُستويين العِراقي، أو القومي العربي الأشمل، فإنّنا نقول ذلك نحن الذين كُنّا، وما زلنا، تلاميذا في مدرسته، من واقع تجربة شخصيّة، ومُتابعة عمليّة لصيقة مُباشرةً لفكره العُروبي الذي جسّده في تأسيسه للمؤتمر القومي العربي والذي جمع فيه كل ألوان الطّيف الوطني العربي والإسلامي، ابتداءً من السيّد حسن نصر الله، ومُرورًا بالسيّد عبد الحميد مهري المُجاهد الجزائري الكبير، والشيخ راشد الغنوشي، وجاسم القطامي، والمفكر الإخواني المُعتقل عصام العريان، وعميد الصحافة العربيّة محمد حسنين هيكل، والعُروبي السعودي محمد سعيد طيب، ولا ننسى الدكتور سليم الحص، والقائمة تطول.
كان يُؤمِن بحتميّة الوحدة بين جناحيّ الأمّة الأبرز، القومي العربي والإسلامي الأممي، ولهذا أراد التّقريب، والمُصالحة بينهما، ولهذا أسّس المُؤتمر القومي العربي والإسلامي ليكون الأرضيّة الصّلبة لهذه المُصالحة، وتوحيد كُل الجُهود لمُواجهة الاحتِلال العُنصري الإسرائيلي العدوّ الأوّل للعالمين العربيّ والإسلاميّ.
مركز دراسات الوحدة العربيّة الذي أسّسه الراحل كان منارة إشعاع ثقافي في المنطقة العربيّة، يَنشُر آلاف الكتب والدراسات والأبحاث، لكتّاب ومُؤلّفين عظام، من الجنسين، ومن مُختلف الأعمار، وكان يُوزّع هذه الكتب مجّانًا في مُعظم الدول والجامعات في الدّول الفقيرة ويتحمّل مصاريف الشّحن، رُغم أسعارها الزّهيدة وقيمتها العلميّة العالية، وعندما واجه هذا المركز صُعوبات ماليّة وتراكمت دُيونه لم يتردّد مُطلقًا في بيع بيت أسرته في بغداد لتسديد هذه الدّيون، وإبقاء المركز على قيد الحياة، وكان بيتًا عزيزًا في عاصمةٍ عزيزةٍ ذات إرث إسلامي وعربي عريق.
كان رحمه الله ورغم أيديولوجيّته القوميّة، مُنفتحًا على جميع القوميّات الأخرى، خاصّةً الأمازيغيّة، والفارسيّة والكرديّة، ولم يُفرّق مُطلقًا بين مُسلم أو مسيحي، ونظّم ندوات في طِهران وبيروت والدوحة للتّقريب بين الحضارتين الفارسيّة والعربيّة، وعقد دورات المؤتمر القومي العربي السنويّة في مُعظم العواصم العربيّة، ابتداءً من تونس التي حظيت بشَرف التّأسيس والإشهار، ومن بغداد تضامنًا معها تحت الحِصار، وصنعاء مجد العُروبة، والقاهرة المُعِز بعد انتصار ثورتها، والخرطوم الشّامخة، والجزائر عاصمة الشّهداء والشّهادة، ورباط المُرابطين، وأخيرًا بيروت التي احتضنته بعد احتِلال العِراق العظيم، وإقدام من جاءوا على ظهر الدبّابات الأمريكيّة على سحب جنسيّته العِراقيّة التي لم يتخلّ عنها، ولم يَحمِل غيرها حتى مماته.
كان رحمه الله مُؤمِنًا بالديمقراطيّة واحتِرام حُقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة، وكان شِعاره الأبديّ “الخُبز مع الكرامة” ولهذا رفض أن يكون رئيسًا دائمًا للمُؤتمر القومي العربي، وأصرّ على ترك القِيادة لمن يستحقّها عبر صناديق الاقتِراع.
خسارتنا في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” للدكتور خيرالدين حسيب كبيرة جدًّا، فقد كان المُعلّم والمُرشد، والحريص دائمًا على استِمرارها، ولم يبخل عليها بمقالاته، ونصائحه، وحشد الدّعم، بكُلّ أشكاله لها، ولم تنقطع مُكالماته الهاتفيّة معنا للاطمِئنان علينا حتى وهو على سرير المرض قبل أسبوع فقط من انتِقاله إلى رحمة الله.
للدكتور خيرالدين حسيب، المُفكّر الكبير، الذي وقف دائمًا في خندق المُقاومة وأهلها نقول وداعًا، وندعو الله أن تكون جنّات الخُلد مأواه الأخير، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون
رأي اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى