الشاشة الرئيسيةمقالات

لماذا سيكون “نفس” بوتين في الحرب الأوكرانية طويلا؟

سمير البرغوثي
بسبب شحة المعلومات الواردة من موسكو باستثناء ما يعلنه الناطق باسم وزارة الدفاع اثارت العمليات العسكرية الروسية بداية الحرب لغطا كبيرا لدرجة التحدث عن فشلها في العواصم الغربية. ولكن بعد مرور أكثر من خمسة أشهر بدأت الصورة تتضح أكثر فأكثر. هدف العمليات العسكرية كان وما يزال واضحا للقيادة الروسية , الهيمنة المباشرة او غير المباشرة على جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك وتعزيز السيطرة على جزيرة القرم ومنع تمدد الناتو .الخطة الأولى كما يشير الخبراء العسكريين كانت قائمة على “نظرية الصدمة” الانتشار السريع في الأراضي الاوكرانية ومحاصرة العاصمة والمدن الرئيسية مما يفقد القيادة الأوكرانية توازنها مع افتراض ضغوط من القيادة العسكرية بعبثية مواجهة القوات الروسية الامر الذي سيؤدي الى القبول بالمطالب الروسية .الخطة كادت ان تنجح بانطلاق المفاوضات في بيلا روسيا مع تلميحات من القيادة الأوكرانية بالقبول بنقاش المطالب الروسية لولا التدخل الأمريكي-الأوروبي السريع ومطالبة أوكرانيا بالمواجهة والانسحاب من المفاوضات بوعود هائلة من المساعدات العسكرية والمالية. اما التوقعات بشأن ضغوط من القيادة العسكرية على زيلينسكي فعلى ما يبدوا كان الامر سوء تقدير من الاستخبارات الروسية التي لم تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الكبيرة التي أحدثها الغرب على بنية الجيش الاوكراني منذ عام 1991 وربما هذا السبب كان خلف الانباء التي تواترت في حينه عن استياء بوتين من أداء أجهزة الاستخبارات بداية الحرب.
سرعان ما انتقلت القيادة الروسية الى خطة “ب “وهي السيطرة العسكرية المباشرة على الجمهوريتين وفرض امر واقع بدلا من انتظار استسلام زيلينسكي وهذا ما تحقق الان. الجيش الروسي في وضع مريح فهو يسيطر على معظم الأراضي المستهدفة، يتخذ وضع دفاع مما يقلل الخسائر البشرية ويتقدم ببطء مدروس وبمخاطر اقل والاهم من ذلك لا يخشى خطر استنزاف من عمليات مقاومة شعبية فهو في بيئة حاضنة صديقة، بل مشاركة له في عملياته، وكون ان المساحة التي يسيطر عليها امتدادا للجغرافيا الروسية لا يواجه اية مشكلة في الامداد اللوجيستي. وبذات الوقت ودون خسائر بشرية تذكر يواصل بواسطة الصواريخ الدقيقة بعيدة المدى والقاذفات الاستراتيجية تدمير البنية العسكرية التحتية على كامل الجغرافيا الأوكرانية.
أسعار موارد الطاقة من نفط وغاز تجاوزت كثيرا السعر العادل (تعريف يستخدمه خبراء الطاقة عندما يكون السعر مقبول للموردين وكاف لتغطية الموازنة الحكومية وبرامج التطوير ويمكن ان يتحمله المستوردون ولا يؤثر على معدلات النمو الاقتصادي المستهدفة).واي دولار يتجاوز السعر العادل هو بمثابة دخل إضافي لروسيا التي تعتبر من اكبر منتجي ومصدري الطاقة في العالم وبهذا الدخل المتأتي من أوروبا بالأساس تمول ألتها الحربية في أوكرانيا من جهة وتمنحها القدرة على توريد طاقة الى الصين والبلدان المصنفة صديقة بأسعار تفضيلية أي دون السعر السائد في السوق العالمي مما يعزز قدرتها التنافسية واذا ما نظرنا الى الأمور بشكل اعمق نجد مفارقة غريبة عجيبة وهي ان أوروبا بشكل مباشر او غير مباشر تمول الالة العسكرية الروسية في أوكرانيا وتمول الجيش الاوكراني في مواجهة هذه الالة وبنفس الوقت تمول تعزيز القدرة التنافسية للصناعات الصينية في مواجهة صناعاتها المحلية في حين يتخوف المواطن الأوروبي من ان لا يجد ما يتدفأ به في فصل الشتاء البارد القادم !
وبضغط واشراف من واشنطن وضعت بروكسل خطة للاستغناء عن مصادر الطاقة الروسية بحلول عام 2027,بعض الخبراء لا يشاركون القادة التفاؤل اذ يعتقدون ان ذلك لن يتحقق قبل 2030 وحتى بعد ذلك. روسيا لن تنتظر حتى يقولوا لها “كش ملك ” من السوق الأوروبي فهي تحتاج فقط 3 سنوات على أبعد تقدير لتجهيز البنية التحتية لأعاده توجيه صادراتها الى الصين والأسواق الاسيوية الصاعدة والتي سيصل استهلاكها الى 50% من الاستهلاك العالمي بحلول 2030 وستستقبل الطاقة الروسية بالورود لانخفاض كلفتها أما أوروبا على الجانب الاخر فستكون مجبرة على استيراد الغاز المسال الأكثر كلفة من الولايات المتحدة وقطر وحديثا من احواض شرق المتوسط بعد تسيله في مصر. وإذا كانت السلع المصنعة واسعارها تحدد بالأساس بمعاملي الطاقة والعمالة فلن يكون بمقدور أوروبا التي تعاني من عجز تجاري مع الصين الان مجاراتها على المدى المتوسط والبعيد وحينها ستكون امام خيارين كلاهما مر أما القبول بتفاقم مزمن في العجز او اللجوء للسياسات الحمائية مما ينذر بحرب تجارية يخسر بها الجميع, عوضا على ان الطبقة الوسطى والفئات الأقل دخلا التي برمجت انفاقها على وجود سلع اقل كلفة ستجد نفسها في مأزق يقودها الى التمرد الاجتماعي والأهلي او التطرف الديني والعنصري مما يهدد أسس بنيان النظام الغربي.
من وجهة نظر الاقتصاد ليس بالضرورة ان تكون الحروب للدول التي تملك قاعدة صناعية قوية ومتينة ولديها مجمع صناعي عسكري ضخم شرا مطلقا فتشغيل هذا المجمع بطاقته الكاملة لسد حاجة الالة الحربية على مدار 24 ساعة له ارتدادات كبيرة على القطاعات الأخرى وفرص العمل وزيادة المداخيل ولكن يوجد بالطبع اثار جانبية فتمويل هذا التشغيل الكامل اما يكون على حساب بنود الانفاق المدني الأخرى أو عبر الاقتراض .الولايات المتحدة الامريكية ومنذ حرب فيتنام وحروبها اللاحقة حتى تاريخه لجأت الى الاقتراض ليصل الدين العام لأكثر من 120% من الناتج القومي الإجمالي, روسيا ليست بحاجة لهذا الخيار أو ذاك فهي تمول التشغيل الكامل للمجمع العسكري الصناعي من المداخيل الإضافية الناجمة عن أسعار الطاقة بمعنى أخر من جيوب المواطن الأوروبي تحديدا الغربي منه !
منذ ان دخل بوتين الكرملين كمسؤول أولا وكرئيس لاحقا ولديه هدف واحد وهو إعادة روسيا الى مجدها بعد ان تم اذلالها عند انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991. وهو أصلا ينتمي الى أسرة تؤمن “بروسيا العظيمة” فجده كان طباخ زعيم الثورة البلشفية لينين ولاحقا ستالين الذي قاد روسيا في نصرها على النازية ووالده ضابط حربية قاتل في الحرب العالمية الثانية وهو نفسه تتلمذ في جهاز المخابرات السوفيتية الذي يعتبر نفسه ندا لجهاز المخابرات المركزية الامريكية وهو يعتقد ان الحرب الأوكرانية مهما طال أمدها يجب أن توصله الى هدفه
لقد تم إعادة هندسة النظام السياسي الروسي ليستوعب بوتين في السلطة حتى عام 2036 وقد يعاد هندسته مرة أخرى لبقائه حتى يحقق هدفه ولذا سيكون “نفسه” في الحرب الأوكرانية طويلا أطول مما تتوقع عواصم الغرب.
كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى