الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

: قراءة في كتاب “شعرية الصراع” مقاربة نصية في شعر المتنبي للدكتور مفلح الحويطات

الغواص نيوز
د.عبدالمهدي القطامين
يبحر الدكتور مفلح الحويطات في كتابه شعرية الصراع في شعر المتنبي بعيدا في نصوص المتنبي الشعرية وقصائده التي ما زال صداها يتردد منذ ما يقارب الف عام مشعلة حضورا طاغيا لشاعر ظل مقلقا في شعره مقلقا في مماته مقلقا في تراثه يشكل تفردا في مسيرة الشعر العربي تماما كما شكل شكسبير تفرده في شعر اللغة الانجليزية .

في كتابه الذي جاء في ٢٥٦ صفحة وفي خمسة فصول كان اولها صراع الانا والاخر وثانيها صراع الشعر والسلطة اما الفصل الثالث فقد جاء تحت عنوان صراع الانا والزمن وفي الفصل الرابع كان صراع الانا والمكان اما الخامس والاخير فقد حمل عنوان الصراع في البنية ولعل هذه المواضيع الخمس كانت احد المداخل الدقيقة لقراءة روح الشاعر ونصوصه التي انفرد بها عن غيره من الشعراء على الرغم من اخذ النقاد عليه مدحه في اغلب الاحيان الا انه كان حريصا في اغلب قصائد المديح ان يلتفت الى ذاته فيجلها اولا ثم يعرج على ممدوحه وسط اشارات تعني الندية وليس التبعية التي اتسم بها شعراء المديح وشعراء السلاطين الذين ذابوا تماما امام ممدوحيهم بينما ظل واقفا المتنبي ممسكا بعنان نصه كي لا ينكسر الشاعر المتمرد في داخله .
في الانا والاخر ظل المتنبي ممسكا بصرامة باناه التي تطاول الاخر والتي تجعل من الاخر هامشا لا مركزا وتظل المفردة الشعرية لديه تحمل هاجس الثورة والتمرد على الشعر وعلى السلطة معا فالشاعر لا يرى في الاخر كا يستحق الذكر بل انه يحط من قدره ويرفع من اناه وتتبدى فرادته وتفرده الشعرية في اشارته الى نفسه المتمكنة من عنق النص وعمق دلالته حين يقول
انام ملىء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
كما تتبدى شدة اعتداده بنفسه في بيته الشهير
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم .
في الفصل الثاني صراع الشعر والسلطة يشير الباحث الحويطات الى هوان حرفة الشعر ومهانة الشعراء وملامح التحول نحو هذا الاتجاه منذ بدايات القرن الثالث الهجري وغابت او تلاشت المكانة المميزة التي تمتع بها الشاعر في الجاهلية وفي صدر الاسلام حيث كان يمثل الشاعر صوت القبيلة وحكيمها ولم يعد في العهد الاموي والعباسي امام الشاعر سوى امرين لا ثالث لهما ان يربأ بنفسه عن سبل التكسب و العطاء ويزهد في متاع الدنيا وحطامها على السواء فينجو بذلك مما ابتلي به شاعر هذا الزمان من صنوف التردي والهوان وهو خيار ليس سهلا على اية حال وثانيهما ان يرضى الشاعر بهذا القدر المتحكم ويقبل مبدأ تحويل شعره الى سلعة تبادلية يقدمها لاصحاب السلطة في مقابل ما يجودون به عليه من مال وعطاء “من هنا تبدأ اشكالية المتنبي مع السلطة وهو الشاعر الذي يرى نفسه احيانا كثيرة فوق السلطة ونفسه المتمردة تعاف بلادة السلاطين والملوك فنراه يهتف
ارانب غير انهم ملوك مفتحة عيونهم نيام
باجسام يحر القتل فيها وما اقرانها الا الطعام
هنا يسترسل الباحث الحويطات في وصف حالة المتنبي ” ان هذه الثورة العارمة على هذه السلطة وامثالها هي تجسيد صريح لصراع السلطة الشعرية مع السلطة السياسية حين رأت الاولى ان الثانية لم تكن تقدر لها مكانتها اللائقة بها وهي سلطة غير قادرة على ادراك قيمة الشعر الذي يشكل عماد السلطة الشعرية واساس قوتها “وهنا يبدو التساؤل هل وقع المتنبي في فخ العوز وسعى للتكسب بشعره من المؤكد انه سعى ولكن ليس كسعي الاخرين فثمة فارق كبير بين سعيه وسعي الاخرين فحين يتماهى الاخرون مع ممدوحيهم ويختفون ذاتا فأن المتنبي ظل حريصا على مدح ذاته جنبا الى جنب مدح ممدوحه ولعل موقفه مع سيف الدولة الحمداني خير دليل على انفته وعزته بنفسه فقد رفض ان يقول الشعر واقفا في حضرة سيف الدولة ورفض ان ينحني له مقبلا ولم يكن بوسع سيف الدولة الا ان يقر بذلك فهو يعرف ان المتنبي سيخلده في شعره وهذا ما حدث تماما فكم من ولاة طمسهم التاريخ وغاب ذكره وظل سيف الدولة علما في ضمير الشعر العربي الى يومنا هذا يقول ابو الطيب مخاطبا سيف الدولة
ان هذا الشعر في الشعر ملك سار فهو الشمس والدنيا فلك
عظل الرحمن فيه بيننا فقضى باللفظ لي والمجد لك
فاذا مر بأذني حاسد صار ممن كان حيا فهلك .
في الفصل الثالث صراع الانا والزمن ثمة ما هو مثير حقا في سيرة ابي الطيب وكمفتتح لهذا الفصل اجاد الباحث مفتتحه ببيتي ابو الطيب اذ يقول
امثلي تاخذ النكبات منه ويجزع من ملاقاة الحمام
ولو برز الزمان الي شخصا لخضب شعر مفرقه حسامي
يقول الباحث الحويطات ” تتسم علاقة المتنبي مع الزمن كما بدا من شعره في كثير من وجوهها بالتوتر والقلق وقد تجلى ذلك في صور مختلفة لعل ابرزها ما يتمثل في تلك المواجهة الحادة التي ابداها الشاعر في موقفه من فكرة الزمن المؤرقة فهو لا يتردد في اظهار قوته ونديته لمقارعة هذا الخصم المعاند الذي يرى فيه مانعا شديد الوطأة في تحجيم الذات وتكبيلها عن تحقيق امالها وطموحاتها العريضة لذا فهو يتخذ في سبيل انجاح هذه المواجهة وسائل مختلفة لتأكيد قدرته وصلابة موقفه غير المهادن من ذلك مواجهة الزمن بالشجاعة والاقدام ففيهما وفق ما يقدر الشاعر اعلاء للذات ورفع لقدرها في الحياة والممات معا يقول
عش عزيزا او مت وانت كريم بين طعن القنا وخفق البنود “
لقد اتخذ المتنبي استراتجية فذة ميزته عن غيره من الشعراء هي استراتجية مقاومة الزمن فهو لا يعترف بالزمن العادي الذي يحسه الانسان ويمر به اياما وليال وسنوات هي حصيلة العمر لكنه يرى في الزمن معيارا آخرا اختطه لنفسه وتفرد فيه ولعله لخصه ببيت واحد من قصيدة الرائية حيث يقول
ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد الا السيف والفتكة البكر
اذن هو خيار المقاومة وخياره الوحيد الذي اختطه لنفسه وهذا ما يبرر خوضه معركته الأخيرة التي قتل فيها في مواجهة كانت بكل المقاييس خاسرة اذ هاجمته مجموعة فرسان بكل عتادهم وكان وحيدا ليس برفقته سوى خادمه وكان الخيار المر الموت او الهرب المواجهة او الانسحاب وان انسحب او هرب اين سيهرب من بيته الشعري الذي طالما تغنى به
الخيل والليل والبيداء تعرفني…..
في الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان صراع الانا والمكان يتبدى لنا ذاك الجهد المبذول من الباحث الذي احكم قبضته بقوة على جدلية صراع المتنبي مع المكان والمكان لدى المتنبي لم يكن محصورا في بقعة جغرافية ضيقة بل كان المدى كله مفتوحا له من بغداد الى حلب الى مصر الى بلاد فارس فتلك النفس المتوثبة وذاك القلق الوجودي لدى الشاعر كان اكبر من ان يسعه وطن واحد او جغرافية واحدة وكما يقول الباحث في هذا الفصل منطلقا من بيت ابي الطيب
بم التعلل لا اهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن
وهي بداية تتكشف عن احساس مرير بالفقد والضياع ولعل اهم المفردات التي غابت او غيبت من شعر المتنبي مفردة الوطن فلا نكاد نرى اي ملمح في نصوصه يشير الى وطن بعينه فكل الارض له موطن واينما طاف به المطاف او وطئت قدماه فثمة علاقة جدلية تحل هناك بين الشاعر والارض طبعا اذا استثنينا بعض القصائد التي تغنت بالشام والكوفة اثناء ترحاله في بلاد فارس ولعل المتنبي اختصر حكايته مع الوطن والمكان ببيته الشهير
اعز مكان في الدنى سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب .
في الفصل الاخير من هذا الكتاب الذي يعد بحق احد اهم الكتب والدراسات التي سعت الى كشف مكنونات شعر المتنبي بل صراعات الشاعر مع الاخر ومع الزمان والمكان يتوقف الباحث طويلا عند الصراع في بنية النص وبنائية القصيدة الشعرية لدى المتنبي وهنا يؤكد الباحث ان بناء كثير من قصائد المتنبي يقوم على فكرة الصراع اذ تتضمن قصيدته مجموعة من العناصر والموضوعات التي تشكل في مجموعها بنية القصيدة ويمكن للدارس ان يلتمس بين هذه الموضوعات والعناصر رابطا نفسيا وبنائيا يكفل للقصيدة في المحصلة شيئا من الوحدة التي تعتمد في اساسها بناء التناقض لا بناء التكامل كما اشار الى ذلك بروكس” ومن الامثلة المعبرة عن هذه البنية قصيدة الشاعر الشهيرة “ليالي بعد الظاعنين شكول” .
ففي هذه القصيدة يشير الباحث ” هكذا يتبدى الصراع على مستوى البنية الكلية في القصيدة اما على مستوى الثيمة المضمون فأن فكرة الصراع في القصيدة تبدو كذلك بالغة الوضوح ويأتي ذلك على صور واشكال متباينة فثمة صراع بين الفجر ( الضياء ) الليل ( العتمة ) وبين الشاعر ( اهل الحبيبة ) والنحن ( المسلمون ) والهم ( الروم ) وسيف الدولة ( الدمستق) والانا ( الشاعر ) والاخر ( الحساد ) ومن هنا نجد القصيدة قد قامت بنية ومعنى على فكرة الصراع التي عمقت البعد الدرامي لها فأكتسبت بذلك تنوعا في المواقف والرؤى .
اخيرا لعل من حسن طالع هذه الدراسة ان من كتب مقدمتها احد اهم الكتاب والدارسين والباحثين في سيرة الشاعر المتنبي وهو الاستاذ الدكتور خالد الكركي الذي شغف بابي الطيب حتى كاد ان يؤمره على شعراء العربية كلهم .
ولعل الباحث د.مفلح الحويطات في كتابه هذا اضاف اضافة نوعية جديدة للمكتبة العربية ولسيرة الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس طويلا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى