الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

عبد الرقيب الوصابي: عندما يتحول الوجود إلى جرح ينزف شعراً قراءة في كتاب (الحضراني في الرمال العطشى) للكاتب اليمني علوان مهدي الجيلاني

الغواص نيوز
عبد الرقيب الوصابي
يواصل علوان مهدي الجيلاني تعميق مجرى نهره متعدد الروافد مؤكداً عبر إصداراته المتوالية على خصوصية تجربته وفرادتها على مستوى خارطة الوطن العربي كلها اليوم، إذ تتوزع اشتغالاته على الشعر والرواية والنقد والسير والتحقيقات والتصوف والشفاهيات، يفعل ذلك كله متكئاً على ثقافة واسعة، ودأب لا يكل، وقدرة لافتة على الإنجاز.
مؤخراً صدر كتابه الجديد “الحضراني في الرمال العطشى” عن دار عناوين بوكس في القاهرة. وهو كتاب يؤرخ ويدرس واحداً من مشاهير ومعمري الشعراء في اليمن، الشاعر إبراهيم الحضراني (1918-2007م)، يستعرض سيرته ويتأمل مدى انعكاسها في شعره. كما يتناول الظروف الأسرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي أحاطت بنشأته، وأثرت في تكوينه، وشكلت طباعه ومزاجه، ورؤيته للشعر، وأسلوب حياته ومواقفه من الأحداث التي عاشها على مدار تسعة وثمانين عاماً.
يقسم الجيلاني كتابه الواقع في (419) صفحة من القطع المتوسط إلى قسمين رئيسيين؛ القسم الأول بعنوان (جرح الوجود واجتراح الشعر)، والقسم الثاني بعنوان (من سمات تجربته الشعرية).
-1-
يحتل القسم الأول (جرح الوجود واجتراح الشعر) أكثر من نصف الكتاب بقليل (240) صفحة، ويحتوي على أحد عشر فصلاً، رسم من خلالها صورة حياتية متكاملة لحياة الحضراني وما حفلت به من تجارب وأحداث، وحاولت قراءة شخصيته والمؤثرات الكبرى فيها من زوايا مختلفة، مرارات الطفولة التي بلغت ذروتها بين سن التاسعة والحادية عشرة، حين تركه والده رهينة عند السلطان الرصاص مقابل حصان ومبلغ من المال، ثم رحل يلاحق أحلامه بإقامة دولة في إحدى بقاع اليمن، لكن رحلة الأوهام قادته إلى عدن والهند وسنغافورة وأندونيسيا، وهي رحلة استغرقت عامين كاملين، وخلال غيبة الأب التي لم يكن السلطان الرصاص ولا حاشيته يعرفون مآلاتها، تم التعامل مع الإبن (إبراهيم الحضراني)، بوصفه عبداً، وعاش حياة العبيد بكل مقتضياتها وما يترتب عليها من استضعاف وكد وشعور بالدونية، يورد الجيلاني من أحد حواراته مع الحضراني حول هذه الفترة (لقد أشرفت على الهلاك في بلاد الرصاص بسبب الحمى، وكانت غربتي ووحدتي أشد من غربة المتنبي ووحدته، كان المتنبي رجلًا ناضجًا، صيته يملأ الدنيا ويشغل الناس، أما أنا فكنت طفلًا غريبًا، أتبع عبدًا من كبار عبيد السلطان، يكلفني من العمل فوق ما أطيق، حتى شعر إبطه كنت أنتفه له، وكان الناس في تلك البلاد يعيشون مجاعة طاحنة، ويعيشون تخلفًا غير عادي، يأكلون عظام أرجل البقر المجففة بعد طحنها وطبخها، ويعالجون استعار الحمى في أجسادهم بالكي، وما زلت حتى اليوم أشعر بألم المتنبي وهو يقول:
وزائِرَتِي كَأنّ بها حَياءً
فلَيْسَ تَزُورُ إلا في الظَّلامِ
بَذَلْتُ لها المَطارِفَ والحَشايَا
فعافَتهَا، وباتَتْ في عِظامِي
يضيق الجِلْدُ عن نَفَسِي وعنها
فتُوسِعُهُ بأنواعِ السقَامِ
إذا ما فارقَتني غسّلَتْني
كأنا عاكِفانِ على حَرَامِ
كأنَّ الصبح يَطْرُدها فَتَجْرِي
مَدامِعُها بأربعةٍ سِجَام
أُراقِبُ وَقْتَها مِنْ غيرِ شَوقٍ
مُراقَبةَ المَشُوقِ المُسْتَهامِ
ويَصْدُقُ وَعْدُها والصِّدْقُ شَرٌّ
إذا ألقاكَ في الكُرَبِ العِظامِ)
ينهي الحضراني كلامه قائلًا: لكني لا أعتقد أن المتنبي عانى ما عانيته، جراء الكي بالنار. وجراء قهر الاستعباد والشعور بالضياع) ثم يخاطبني: أنت تذكر رواية (امبراطورية الشمس) للكاتب جيمس بالارد، استعرتها مني قبل سنة.
-نعم قرأتها، وشاهدت الفيلم، إنه عمل روائي عظيم ومؤلم جدًا.
– ربما كان وضعي أصعب من وضعه وأكثر إيلامًا)ص40، 41.
وهي فترة ظلت تنعكس على حياة الشاعر وقد عانى منها في ضحوة شبابه عندما التحق صحبة أبية عام 1938م ببلاط سيف الإسلام أحمد حميد الدين ولي عهد اليمن آنذاك، حيث عانى لفترة من ضعف الحضور في المكان جراء انعكاسات فترة العبودية على شخصيته، وتجلت على مدار عدة سنوات في عدم قدرته على مزاحمة ومنافسة أقرانه من الشعراء في ذلك البلاط الذي كان يشجع الشعر ومبدعيه.
يتناول الجيلاني هذه المتلازمة وأمثالها في عدة فصول من هذا القسم تحت عناوين مثل: (يتعلم من أبيه ويتألم منه)، و(مزاحمة العقبان والدعاميص)، حيث يتضح لنا مدى تأثير الأب على الابن فهو سبب فخره وهو أيضاً سبب قهره، كما أن تلك المتلازمة تظل تتردد في فصول أخرى من هذا القسم؛ منها مثلاً ما كتبه في مفتتحه تحت عنوان (الحضراني في الرمال العطشى)، ويستحضرها حتى في فصول من القسم الثاني من الكتاب سيأتي ذكرها لاحقاً. لكنه توقف عندها طويلاً في فصل عنوانه (على هامش البلاط وهامش الحياة أيضاً) حيث تتداخل في هذا الفصل مسارات طبيعة الحضراني الشخصية وسلوكياته التي ما تزال تتأثر بما حدث له في طفولته، وبين طبيعة الحكام من خلفاء وملوك وأباطرة وأمراء إذ يحتاج الانضمام إلى بلاطاتهم طبائع خاصة، وقدرات على التكيف مع وضع البلاط والعاملين فيه كيفما كان، وقدرات على استشعار تقلبات الوضع وامتلاك حس المبادرة، فهذه الأماكن رجراجة كثيرة الزلازل لا يسلم من عواصفها أكثر الشعراء والكتاب ذكاءً، ولعل استدعاء المدخل الرائع الذي دشن الجيلاني به هذا الفصل أكثر قدرة على وضعنا في الصورة الواضحة لما يمكن أن يكون عليه الحال، كتب الجيلاني (في مطلع القرن الثامن عشر قَدَّمَ الناقد الفرنسي داسبيرو أحد الشعراء ليعمل في بلاط الملك: يا صاحب الجلالة أقدم لك رجلًا سوف يهبك الخلود، ولكن أرجو أن تعطيه رغيفًا حتى يتمكن من أداء هذه المهمة.
ونظر الملك إلى الشاعر، تأمله طولًا وعرضًا وعمقًا، ثم وجه السؤال إلى الناقد: ولكن يا داسبيرو ما الذي يأكله الشعراء؟
قال داسبيرو: ما يأكله كل المواطنين.
قال الملك: فمن أين يأتون بهذا الكلام الغريب إذا كانوا يتناولون الطعام نفسه؟
أجاب داسبيرو: هذه هي الموهبة التي انفردوا بها.
قال الملك: ولماذا لم يعطهم الله بعض المال حتى لا يمدوا أيديهم إلى الملوك؟
رد داسبيرو: هذا هو مصدر تعاستهم، والتعاسة هي أحد ينابيع الشعر، فإن لم يجدوا التعاسة عند غيرهم، ابتدعوها هم لأنفسهم.
قال الملك: دعني أفكر قليلًا في الذي قلت، إذن هذا الشاعر سوف يدخل قصري فيسخط على الملك الذي ليس شاعرًا، وعنده كل شيء، ويسخط على حاشية الملك التي لا رأي لها ولا عقل، ويسخط على عشيقات الملك اللاتي أعطاهن الله الجمال وحرمهن نعمة العقل، إذ كيف يركعن عند قدمي الملك، ولا يركعن عند عظمة الشاعر، إن كان هذا هو المقصود من وجود الشاعر في البلاط فإني أوافق أن أكون مصدر تعاسة له ليقول شعرًا.
وعلى مر التاريخ كان الشعراء وأهل الأدب يعانون الأمرين جراء اتصالهم بالملوك والأمراء، فغالبًا ما يكون الملك جاهلًا، لكن خواص مستشاريه يقنعونه بضرورة وجود الشعراء في بلاطه، فهم من سيشيد بمآثره وسجاياه وبطولاته، وشعرهم سيكون معرضًا لبصماته في زمنه. ويوافق الملك، لكنه قد يرضى عن الشاعر فيحظى بالمجد والمكانة اللائقة به منصبًا وعيشًا، وقد لا يرضى فيعيش الشاعر على هامش البلاط يعاني غمز ولمز واستهتار موظفي البلاط وندماء الملك ومحظياته، فالعادة في البلاط رفع من يرفعه الملك أو الأمير وحط من يحطّه.
أما حين يجمع الملك بين الجهل والحمق، فمصيبة الشعراء لا حل لها: ذات يوم جمع الامبراطور نيرون شعراء مملكته وسألهم: كل واحد منكم يتقدم خطوة، ويقول بسرعة: ما هي صناعته.
واندهش الإمبراطور حين عرف أنهم لا يجيدون شيئًا غير كتابة الشعر، مع ذلك يجدون شرابًا وطعامًا ويحترمهم الناس، فطردهم وطلب أن يختار كل واحد منهم عملًا يقتات منه وإلا قتلهم جميعًا.
وبعد وقت استدعاهم، وسألهم ماذا تعلّموا؟: فأبرز كل واحد منهم قصيدة، ظل طوال تلك المدة ينقحها ويحكّك ألفاظها ومعانيها، وكاد الإمبراطور يُجن، فهو لا يفهم مغزى هذا الكلام، ولا يدري لماذا يعتبرونه شيئًا جيدًا، لكن أحد الشعراء قال له: إن شعري يشفي الصداع.
ونطح الإمبراطور الحائط حتى دارت به الدنيا، وقال للشاعر: إن رأسي الآن توجعني، فهات أسمعني شعرك الذي يشفي وجع الرأس.
قرأ الشاعر القصيدة، لكن الإمبراطور أمر بإيداعه السجن، فشعره لم يشف وجع الرأس.
وقال شاعر آخر: إن قصيدتي تجعل المرأة القبيحة جميلة.
فقال الإمبراطور: أحضروا لي أقبح امرأة في القصر لنرى كيف يجعلها شعره جميلة.
جاءت المرأة وكانت قبيحة جدًا، وطفق الإمبراطور ينظر إليها فيما راح الشاعر يعزف على قيثارته ويغني شعره. لكن المرأة ظلت في عيني الإمبراطور كما هي. فأوقف الشاعر عن الغناء وسأل الحاضرين: هل ترونها جميلة؟
وردوا بصوت واحد: إنها قبيحة كما كانت دائمًا.
وسأل الإمبراطور الشاعر: وأنت كيف تراها؟
أجاب الشاعر: أراها جميلة جدًا.
فقال الإمبرطوار: لقد أمرنا أن تتزوجها على الفور.
وصرخ الشاعر ولكن دون فائدة.
وعلى مر التاريخ أيضًا ظل الشعراء والأدباء هم الطرف الأضعف في علاقتهم بالحاكم كيفما كان لقبه خليفة، أو إمامًا، أو ملكًا، أو أميرًا، أو وزيرًا، أو واليًا على جهة مّا. حتى حين يكون صاحب السلطة من أصحاب المواهب الشعرية، أو كان البلاط عند نشأته بيئة جيدة للشعر والعلم والأدب، وتقدير المنتجين لهذه الفنون، بل حتى عندما يكون صاحب البلاط من المحسوبين على الشعر والأدب والثقافة مشاركة وتأليفًا؛ لأن السلطة تفرض منطقها الخاص، فقوة النفوذ التي تنعكس في القدرة على إنفاق المال والجاه الواسع وطاعة الناس وكثرة المديح وسهولة استبدال المقربين، تغير النفوس.
وقد يلعب التنافس والتزاحم حول صاحب البلاط دورًا كبيرًا؛ في ما قد يصيب شاعرًا أو أديبًا مميزًا من نكبات، جراء الوشايات ونسج المكائد، وحكحكة التأويلات، والبحث عن المثالب، وكشف المعايب. التي غالبًا ما تجد القبول عند الحاكم لا لشيء إلا لإرضاء نزعة التسلط والاستعلاء التي صار يمتلئ بها، ولا أدل على ذلك مما حدث للمتنبي في بلاط سيف الدولة، فنحن بعد ألف سنة نشعر بالأسف والحنق الشديدين، جراء تعرض شاعر بحجم المتنبي إلى موقف مهين لا يليق بقدره أبدًا، وما نقرؤه ليس إلا مسرحية سخيفة، يتبارى خلالها المنافسون في النيل من الشاعر العظيم، فيما يبدو سيف الدولة مستمتعًا ومستريحًا لما يحدث، قبل أن يفصح عن تواطئه بضرب الشاعر الذي أثّلَ مجده وصنع أسطورته، والذي لولا شعره؛ لكان سيف الدولة مثل مئات الأمراء الذين لا يعرفهم إلا المتخصصون في التاريخ.
أما ما فعله ابن العميد والصاحب بن عباد بأبي حيان التوحيدي فهو أنكى وأشد، فقد كانت مكانتهما الأدبية أهم كثيرًا من مكانتهما كسلطة، وكان علمهما بمكانة التوحيدي وفضله أكبر بمراحل قياسًا بأهل زمانهما؛ من أهل السلطة ومن أهل الأدب أيضًا، ولم يكن التوحيدي يحظى بنجومية المتنبي ولمعانه، ولا بتهافت قصور الملوك والأمراء عليه. فتجرع مرارة التهميش والظلم، وعانى وجع التحقير والتصغير؛ بوضعه في غير موضعه تعمدًا وقصدًا، والحط من مقامه، والتكبر عليه. ورغم أنه انتقم منهما بتأليف (مثالب الوزيرين)، وهو كتاب لم يترك فيه نقيصة إلا وألصقها بهما، إلا أنك تظل تشعر بالغضب من أجله وتشعر بالحزن الشديد وأنت تسمعه يقول عنهما وعن غيرهما من ذوي النفوذ والجاه: (ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم).
تداعت هذه الأمثلة من التاريخ؛ بمجرد أن فكرت في بدء مقاربة اللحظة الأولى لاتصال الحضراني ببلاط سيف الإسلام أحمد حميد الدين في تعز. فهل سيفضي بنا تتابع سرديتها إلى اختلاف يميزها، أم أن التاريخ سيعيد نفسه فيها؟) ص59، 63.
بعد هذا المدخل يستقصي الجيلاني معاناة ست سنوات حافلة بالألم والمواجع وضيق الحال والشعور بالعدمية، عاشها الشاعر الحضراني على هامش البلاط، رغم أن بعض نجوم البلاط كانوا أقرب الناس إليه مثل أبيه القاضي والشاعر والراوية أحمد الحضراني، ومثل صديقيه أحمد الشامي وعبد الوهاب الشامي.
وسيقضي وقتا طويلا يقول الشعر بعد الشعر “محاولاً لفت انتباه ولي العهد إليه من ذلك قوله:
مولايَ حَتَّامَ أرى ضائعًا
أجـري وراء الأمل الضائعِ
كـأنّـنـي الـعـقّـاد مـسـتـسلمًا
والـدهر في قسوته الرافعي
إلا أنه قليلًا ما كان يفلح، فإذا أفلح فإن ما يصيبه يكون مجرد مهدىء آني، كتب مرة:
ولسـت أبالي إن طلبت وفاتـنـي
لدى الناس أكلٌ ناعمٌ وشرابُ
ولكن شجى نفسي الحزينة أنني
ظمئتُ وفـوقي راعـدٌ وسحاب
وفي المقام أطلع واحدًا من ذوي الحظوة على البيتين، فأخذ الورقة من يد الحضراني، وذهب إلى حيث يتكىء ولي العهد فسلمها إليه، قرأ ولي العهد البيتين وأمر له بمبلغ جيد من المال، وكتب له ردًا شعريًا يقول فيه:
إليك فخذ ما تشتهيه فقد همى
عليك من الخير الجزيل سحابُ)ص72، 73
غير أن ذلك لا يتعدى أن يكون نوعاً من المهدئات كما يقول الجيلاني، وسيحتاج الحضراني إلى زلزال يهز المكان ويجبر نجوم البلاط من الشعراء والخطباء على الفرار ليخلو له المكان ويتفرد بالنجومية فيه، فقد هدد ولي العهد سيف الاسلام أحمد حميد الدين بإرواء سيفه من دماء دعاة العصرنة، ما أجبر الشعراء محمد محمود الزبيري وأحمد النعمان وأحمد الشامي وغيرهم على الفرار إلى عدن، وبقي الحضراني الذي سيظل بقاؤه لغزاً محيراً، إذ أنه كان مشمولاً بذلك التهديد والوعيد، لكننا ما نلبث أن نسمعه يخاطب نفسه بسعادة غير خافية:
الآن طاب لي المقام
ولذ لي فيه السرور
وإليك يا سيف الخلافة
هز أخيلتي الشعور
كأس من الشعر المعتق
سوف ترويه العصور
قد ضوّأت من آل أحمد
فيه هالات تمور
فقد تحقق له ما يريد وصار شاعر البلاط الأول، وإن لم يمنعه ذلك من مراسلة أصدقائه الهاربين إلى عدن ومشاركتهم في وقائع الانقلاب على إمام اليمن، الإمام يحيى حميد الدين عام 1948م.
إلى جانب ذلك يتناول المؤلف في هذا القسم من الكتاب قضية أخرى ارتبطت بتجربة الحضراني الشعرية، هي قضية ضياع معظم ما كتبه من شعر، بسبب تفريطه وعدم اهتمامه بالتوثيق والحفظ، وعدم رغبته في إصدار شعره في مجموعات كما يفعل سائر الشعراء خلال حياتهم، أو حتى اهتمامه بإصداره في كتاب واحد في السنوات المتأخرة من العمر، ويؤكد الجيلاني أن من المفارقات الكبرى أن يضج كبار كتاب اليمن مثل أحمد الشامي وعبدالله البردوني وعبد العزيز المقالح وعبد الودود سيف وأمثالهم، ومعهم جملة من كبار الكتاب العرب مثل عباس محمود العقاد ومحمود حسن إسماعيل وفاروق شوشة وهلال ناجي بتقدير شعر الحضراني، ولتأكيد على أهميته كتجربة فريدة وقوية الحضور والتأثير، وأن تتكالب المهرجانات الشعرية العربية على دعوته سنوات طويلة تقديراً لهذه التجربة، فيما هو لا يهتم لشعره ولا يفكر في توثيقه.
ويذكر الجيلاني أن ما بين يدينا من شعر هذا الشاعر الكبير هو بالتأكيد أقل من نصف شعره، وذلك في ضوء ما كان يؤكده هو ويؤكده أصدقاؤه والمعاصرون لتجربته؛ مثل صديقه الأقرب إليه الشاعر أحمد الشامي ومثل الأدباء عبد الودود سيف وعبد الله البردوني وعبد العزيز المقالح من أنه كان من أكثر الشعراء إنتاجاً.
وفي ثلاثة فصول أخرى من هذا القسم هي (الكثير الذي صار قليلا) و (بعد ستين عاماً بكى الحضراني) و (حتى لو تحولت القصيدة إلى امرأة). يستعرض الجيلاني الكثير من وقائع وأسباب ذلك الضياع، ويذكر كيف حاول الشاعر أحمد الشامي عند مطلع التسعينيات إنقاذ ما يمكن إنقاذه من شعر الحضراني، فلجأ إلى إرشيفه وإلى مراسلاته، وأصدر ديوانا تحت عنوان (القطوف الدواني من شعر إبراهيم الحضراني)، وجاء من منفاه الاختياري في لندن ليحتفل به في صنعاء، وأنه حين حدث ذلك كان عمر الحضراني (74) عاماً، ثم تمت عملية جمع أخرى قام بها الشاعر والناقد عبد الودود سيف الذي استطاع العثور على قصائد أخرى للحضراني أصدرها في ملف خاص على صفحات صحيفة البريد الأدبي عام 1999م، ثم تصدى الجيلاني نفسه للمهمة منذ عام 2001م ليسفر جهده عن العثور على قصائد أخرى قام بضمها إلى ما قدمه الشامي في ديوان (القطوف الدواني) وما قدمه سيف في البريد الأدبي، ومن ثم عبر تواصل امتد لسنوات مع الحضراني نفسه قام بمراجعة وتحقيق كل ما تجمع من جهد سابقيه وجهده وإصداره عام 2004م في مجلد واحد تحت عنوان (ديوان الحضراني)، ثم بعد (15) سنة استأنف البحث وعثر أثناء إقامته في القاهرة سنة 2019م على قصائد جديدة، وكان الفصل المعنون بـ(حتى لو تحولت القصيدة إلى امرأة)، مخصصاً بكامله للحديث عن تلك القصائد.
الجيلاني خصص أربعة فصول أخرى من القسم الأول من الكتاب للحديث عن جوانب مختلفة من حياة الحضراني، فصل بعنوان (سنوات الشعر العجاف) يتحدث فيه عن فترة صمت مرت بالحضراني بعد خروجه من السجن في مطلع الخمسينيات، واستمرت حتى سفره إلى الكويت للمشاركة في مهرجان البطولة في الشعر العربي سنة 1958م. وهو فصل يكشف عن الكثير من أسرار الحضراني ومراسلاته الأدبية وقربه الشديد من محمد البدر ولي عهد اليمن آنذاك.
وفصل بعنوان (الشعر لذة أبيقورية والتزام خاص) يفصل فيه تحولات طرأت على حياة الحضراني وشخصيته أثناء إقامته في مصر والكويت؛ خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ويستعرض علاقاته بعديد المبدعين المصريين مثل محمود حسن إسماعيل وأم كلثوم وأحمد رامي وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وأنيس منصور وفاروق شوشة وصالح جودت وأمل دنقل والعوضي الوكيل ومختار الوكيل، كما يتحدث عن ارتياده صالون العقاد ورأيه في العقاد ورأي العقاد فيه. وعن معرفته بالعقاد يروي الجيلاني عن الحضراني قوله (وعرفت العقاد، وكان حضوري لندوته الأسبوعية حدثًا مؤثرًا في حياتي، كان العقاد أشبه بشجرة ضخمة تحمل كمًا هائلًا من الثمار اليانعة، وبينما كنت في الطريق إلى بيته، فوجئت أن قلبي يدق بعنف، وأن داخلي تختلط فيه السعادة بالرهبة، إنها نفس الأحاسيس التي انتابتني وأنا أدخل مقام سيف الإسلام أحمد حميد الدين للمرة الأولى في حياتي، وقلت لنفسي: ما هذا يا إبراهيم أنت ستلتقي بكاتب وأديب قرأت معظم كتبه، ألِفْتَهُ وألفت أسلوبه وطريقة تفكيره منذ أكثر من عشرين سنة. إنه العقاد الشاعر والكاتب والمفكر وليس الإمام أحمد حميد الدين الدولة والسطوة والرعب، وتذكرت نكتة ذمارية مضحكة: ذمار كما تعرف باردة جدًا، وكان أحد علمائها حريصًا على أداء ابنه الشاب الصلوات الخمس في الجامع، وكان موعد صلاة الصبح يتحول كل يوم إلى صياح وشجار، فالوالد يحرص على إيقاظ ولده للصلاة، والولد يَعِدُ أباه أن يلحق به، ثم يغلبه الكسل ولذة النوم تحت الغطاء فلا يلحق به، ذات يوم عاد الوالد من صلاة الفجر غاضبًا، أزاح الغطاء عن وجه ابنه وقال له: ما معي منك.. ما بلا أدور لنفسي مخرج من خطاب الله سبحانه وتعالى في قوله: ▬يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد♂ ومد صوته على طريقة الخطباء (شداااااااد)، فشوّح الولد بيده، وقال باستهانة: يا به.. هم ملائكة مش مقادشه.
ضحكت بيني وبين نفسي، وكان برفقتي العوضي الوكيل، وهو شاعر ومثقف خفيف الظل وهجاء غير عادي. لا حظ ابتسامتي الصامتة فقال لي: إيه يا عم الحضراني بتفكر في إيه؟
قلت له أفكر في العقاد.
ابتسم العوضي وقال لي كلامًا، أعتبره حتى الآن مثالًا للتقدير والاحترام الذي يمكن أن يناله كاتب ما: قال لي: ومن الذي يكون في طريقه إلى العقاد ولا يفكر فيه، تصور يا حضراني أن هذا التفكير ينتاب مريديه جميعًا صباح كل جمعة.
لكن العقاد حين دخلت عليه لم يكن شجرة واحدة كما كنت أقول لنفسي، كان أشجارًا كثيرة، وعندما قدمني العوضي الوكيل إليه، أسعده أني من اليمن، فرحب بي وسط مجموعة أصدقائه ومريديه، وصادف أن زاره ذلك اليوم واحد من أقدم أصدقائه هو الكاتب علي أدهم وكان مسنًا، كذلك كان مريده الشهير محمد خليفة التونسي موجودًا، وكان في الصالون أحمد عبد الغفور عطار من السعودية، والشاعران أبو سلمى وهارون هاشم رشيد من فلسطين. والشاعر محمد محمد علي من السودان، وآخرون من تونس ولبنان والعراق. يومها شعرت أني أزداد طولًا، وأن إضافة حقيقية طرأت على حياتي، بدا لي العقاد فريدًا أكثر مما كنت أتخيل، وبدا مهابًا تشعر فيه بالجبروت، لكنه جبروت العلم والمعرفة والذكاء والعصامية والشعور القوي بالذات، يتكلم في كل فن الشعر والأدب والفكر والفلسفة والدين والتاريخ والسياسة، ويجيد النكتة ويجيد الضحك عليها، ويفهم علم النفس الإنسانية فهمًا دقيقًا، تحتار وأنت تشاهده وتسمعه بأي خصلة فيه تعجب. يومها تمنيت لو كنت جئت إلى مصر قبل عشرين سنة، وقلت لنفسي: لقد ذهبت الكثير من أيام عمرنا هباءً)ص141، 142.
إلى جانب ذلك يفصل الجيلاني جوانب من أسرار حياة الحضراني، وأسفاره ومشاركاته في المهرجانات، وقراءاته والمجلات المصرية التي كان ينشر فيها قصائده، وقصص الحب التي عاشها في القاهرة، وكيف نقلته تلك القصص شعرياً من الرومانسية الروحانية المهومة في السماء إلى وصف ملذات الجسد والتغني بأحاسيسه، وفي هذا السياق يرد المؤلف على الشاعر والمفكر اليمني عبدالله البردوني الذي سخر في أحد مؤلفاته من تحول الحضراني واصفاً تحوله بـ(النيزرة) نسبة إلى الشاعر نزار قباني، أو تشبهاً بأسلوبه، وقال الجيلاني إن نقد البردوني لهذا التحول في أسلوب الحضراني لم يكن موفقاً، فقد كان يحمل سمة التحامل أو الاستكثار، فالبردوني يستكثر على الحضراني أن يحب وأن يعشق. وهذا الاستكثار حسب الجيلاني سمة يمنية أكثر من كونها رأيا نقدياً.
وهناك فصل بعنوان (الحضراني في ضجيج فارغ) يقدم فيه المؤلف قراءة تفكيكية ممتعة لرسائل تبادلها الحضراني أثناء إقامته في الكويت عند مطلع السبعينيات مع صديق له، وهو أديب ودبلوماسي ومناضل يمني من جيله اسمه أحمد المروني، ويبرز الجيلاني من خلال قراءته لتلك الرسائل الظلال القاتمة التي ألقتها نكسة أو هزيمة 1967م على نفوس المبدعين العرب، فامتلأ الخطاب في تلك الرسائل بالتشاؤم، والشعور بالإحباط والملل وعدم الثقة في كل شيء.
أما الفصل الذي حمل عنوان “المبدع الكبير بعيداً عن ثقل الهيبة” فيقدم الجيلاني فيه خلاصة قراءاته لشخصية الحضراني أو خلاصة لحياته كلها، إبداعه، ذاكرته، سمات التأمل في شخصيته ومزاجه، أو يرسمه كما عرفه هو شخصياً، فبعد أن يسرد مراحل معرفته به قارئاً عنه وله من بعيد، ثم لقاءاته المتباعدة به عبر عشر سنوات كاملة أعقبتها فترة ارتباطه به أثناء اشتغاله على تحقيق ديوانه، حيث تعمقت صلته به في السنوات السبع الأخيرة من حياته. يقول الجيلاني (كان في زملاء الحضراني من يشبهه في بعض وجوه إبداعه. كما كان فيهم من يلتقي معه في آراء وأفكار وأحلام وأمنيات. لكني أستطيع أن أجزم أن ليس فيهم من كان يشبهه في تواضعه، وفي تأمله، وحسه الإنساني الذي يكبر ويسمو على قيود المعتقد وعادات المكان.
كنت كلما لقيته. ورأيت طريقة إصغائه إلى حديثي معه. لا أستطيع أن أمسك نفسي من سرحة تأمل في تواضعه العجيب، ولم أكن في تأملي لتواضعه قادرًا على منع نفسي في كل مرة؛ من استحضار جملة من رفاق دربه وأمثاله من الكبار الذين يملؤون حياتنا. بعضهم ترك أثرًا حقيقيًا، ولكنه خمَّجهُ بالضجيج حول ذاته التي جعلها مركزًا للكون. وقطبًا لذوات الآخرين يجب أن تدور كلها حولها. وبعض آخر لم يفعل شيئًا يذكر بل كان من أسباب مآسينا. ومع ذلك فهذا البعض لا يريد أن يتركنا لشأننا. وهو يحاول جاهدًا تحميلنا تبعات كل ما حصل ويحصل بسببه وسبب أمثاله. من الفارغين إبداعًا وإنسانية) ص235، 236.
تجدر الإشارة إلى ميزة قوية يتميز بها هذا القسم من الكتاب تتمثل في استهلالات الفصول، فكل استهلال يعد قطعة فنية فلسفية، تمثل قيمة مضافة للمحتوى الذي يتميز بالإحاطة بالوقائع والقدرة على توضيح سياقاتها، وتبرير مآلاتها بما يتلاءم معها، وهذا من أكثر ما يجذب القارئ لقراءة لقراءته.
-2-
القسم الثاني من الكتاب جاء تحت عنوان (من سمات تجربته الشعرية)، ويقع في 170 صفحة، ويشتمل على عشرة فصول أو عناوين داخلية، فتحت عنوان (مفهوم الشعر عند الحضراني) انطوت ثلاث عناوين هي (أصداء المثاقفات وبوح النصوص) و(التصورات النظرية واشتراطات الواقع) و(ماهية المتحقق من خلال تناصاته)، تلتها ستة فصول أخرى جاءت عناوينها على هذا النحو: (الحزن والألم في تجربة الحضراني) و(الحضراني شاعر الومضة والتكثيف) و(الشعر مرآة وجود الذات) و (الحضراني والقصيدة الطويلة) و (الإيقاع والأوزان في مدار التجربة الحضرانية) و (سمات الصورة الشعرية وتجلياتها) إضافة إلى خلاصة قصيرة ختم بها المؤلف الكتاب.
عنوان القسم (من سمات تجربة الحضراني) يعني أن الجيلاني لم يشأ دراسة سمات تجربة الحضراني كلها، وإنما اختار منها ما يدل أو يؤكد على انعكاس سمات شخصيته في شعره، أعني تلك السمات التي قدمها من زوايا مختلفة في القسم الأول من الكتاب، وهذا اشتغال ذكي يمثل حرصاً على وحدة موضوع الكتاب، ويمثل في نفس الوقت فكرة المؤلف في تقديم صورة متكاملة الأجزاء للحضراني، حياة وطباعاً ومزاجاً وميولاً فكرية وفنية، نستطيع تبينها في مشواره الحياتي ومشواره الشعري على حد سواء.
في مفتتح هذا الفصل نقراً مدخلاً توضيحياً يضع الحضراني كتجربة شعرية في سياقه التاريخي والذهني فهو (ينتمي إلى الجيل الثالث من أجيال الشعر اليمني في القرن العشرين، وهو الجيل الرومانسي، الذي يمكن أن نسميه جيل العافية الشعرية، والمقصود بهذا التعبير أن هذا الجيل كان يعيش في زمنه، ويعبر عن ذوات شعرائه، ويتصل صلة قوية بمعاصريه في الجغرافيات العربية المجاورة. وأهم من يمثل هذا الجيل الشعراء: حسن بن عبدالرحمن السقاف، إبراهيم الحضراني، أحمد بن محمد الشامي، علي محمد لقمان، عبد الوهاب الشامي، محمد عبده غانم، لطفي جعفر أمان، إدريس حنبلة، صالح الحامد. ويمكن أن يندرج معهم من المتقدمين عليهم الزبيري في جانب من شعره، رغم انتفاء القصدية في كتابته؛ إذ لو توفرت القصدية لكان مبشرًا حقيقيًا بهم. كما يمكن أن يندرج معهم من المتأخرين عنهم البردوني خاصة في ديوانه الأول. بما يجعله ثمرة لهم. وقد تماهت إبداعات هذا الجيل مع معاصريهم من الشعراء في مصر والمهجر والشام والعراق والسودان وتونس وغيرها. فركبوا مع الملاح التائه على المركب نفسه) ص243.
والمقصود بـ(الملاح التائه) الشاعر المصري علي محمود طه (توفي عام 1949م) صاحب ديوان (الملاح التائه) وقد كان لهذا الديوان تأثير كبير على الشعراء العرب في النصف الأول من القرن العشرين.
يذهب الجيلاني إلى أن تجربة الحضراني الشعرية انبنت (على خمس ركائز؛ أولاها: التراث العربي الواسع المتمثل على وجه الخصوص في شعر المتنبي وأبي العلاء المعري وأبي تمام والبحتري وأبي نواس والشريف الرضي ومهيار الديلمي ونهج البلاغة ومقامات الحريري، وثانيتها: تأثره القوي بوالده، الذي كان شاعرًا ومحبًا للشعر، يختار أجمله، ويفضل ما كان منه صادقًا في عواطفه، وثالثتها: تأثره بكتابات العقاد والمازني وشكري، وإعجابه بدعوتهم إلى تجديد الشعر، ورابعتها: تأثره القوي بشعر إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل ومدرستَيْ (الرسالة) و(أبولو)، وخامستها: مثاقفاته مع سربه من الشعراء والكتاب، في بلاط سيف الإسلام أحمد حميد الدين، وعلى رأس أولئك الشعراء أحمد بن محمد الشامي، وعبد الوهاب الشامي، وتتصل بذلك المحيط مثاقفاتهم عبر صحيفة فتاة الجزيرة، وعبر المراسلات مع نظرائهم في عدن من أمثال علي محمد لقمان، محمد عبده غانم، لطفي جعفر أمان، إدريس حنبلة، صالح الحامد) ص247.
ويؤكد الجيلاني على أن مفهوم الحضراني للشعر 0ينحاز للرؤية الفنية الجديدة التي بلورتها جماعات (المهجر والديوان وأبولو) وقد أقبل الحضراني منذ عام 1938م على قراءة نتاج هذه الجماعات من خلال دواوين شعرائها ومؤلفاتهم، ومن خلال تنظيراتهم الشعرية التي حفلت بها مقدمات دواوينهم، وكتاباتهم النقدية التي عجت بها عديد المجلات وعلى رأسها (الرسالة) و (أبولُو). ويقارن موقف الحضراني في طفرة شبابه خلال عقد الأربعينيات من شعر المديح الذي اشتهر به معاصره الشاعر محمد محمود الزبيري بموقف العقاد من شعر المديح الذي اشتهر به أحمد شوقي. فعندما قال العقاد:
والشعر من نفس الرحمن مقتبس
والشاعر الفذ بين الناس رحمن
كان يتحدث عن الشعر ووظيفته بالنسبة لشاعره وبالنسبة للمجتمع، فيما كانت أصداء قول شوقى المشهور:
شاعر الأمير وما بالقليل ذا اللقب
ما زالت تتردد في أرجاء الوطن العربي كله
وعندما قال الحضراني:
إنما الكون مصحف أنت يا شاعر
قاري الجلال من تبيانه
وتسرب إلى قلوب المحبين
بنشر الربيع في إبانه
كان يتحدث عن الشعر ووظيفته بالنسبة لشاعره وبالنسبة للمجتمع، فيما كانت تتردد أصداء قول الزبيري يمدح سيف الإسلام أحمد حميد الدين بعد أن اختاره أميراً لشعراء اليمن:
عليّ أن أخلب الألباب محتكماً
كما تحكم في الأعناق بتار
وأن أقيم لك الدنيا وأقعدها
حتى تكون كما تهوى وتختار
لكن الجيلاني ينبهنا في موضع آخر وتحت عنوان (التصورات النظرية واشتراطات الواقع) إلى أن (تطلعات الحضراني إلى التجديد كانت محكومة باشتراطات واقعه، وقد اضطره واقعه أن يكتب في الأغراض التي طالما أعلن رفض الكتابة عبرها، فقد مدح وهجا، وكتب شعرًا اجتماعيًا ووطنيًا، بمعنى آخر، فإن وضعه ومواضعات واقعه لم تدعه وشأنه) ص260، 270
وينبهنا إلى أن تلك مفارقة وقع فيها العقاد نفسه فقد (استهدف أحمد شوقي استهدافًا واسعًا، وخص شعره في المديح والرثاء بكثير من الازدراء، مع ذلك فإن المسافة بين التصورات النظرية وبين الإنجاز النصي، كانت مسافة هائلة لديه .. فكتب شعرًا في المديح) ص 262.
ويرى الجيلاني أنه إذا كان اتجاه الحضراني للمديح قد أملته ظروفه الصعبة واشتراطات واقعه الأكثر صعوبة، فإن اتجاه العقاد للمديح يبدو غير مفهوم، فقد كان يتمتع بمكانة عالية، وشهرة واسعة، وشخصية جبارة، ولم يكن محتاجًا لتزلف أحد.
مثل هذه الملاحظات والمقارنات الذكية ترد كثيراً في قراءة الجيلاني لسمات التجربة الشعرية عند الحضراني، فيما هو يواصل رصد الجهد النظري الموازي الذي قدمه الحضراني حول مفهومه للشعر؛ من خلال كتاباته في مجلة البريد الأدبي عند منتصف الأربعينيات، ومن خلال تقديمه لديوان صديقه أحمد الشامي (النفس الأول) في مطلع الخمسينيات، ثم من خلال مراسلاته مع الأديب أحمد مداعس.
وتحت عنوان (ماهية المتحقق من خلال تناصاته) يتتبع الجيلاني تناصات الحضراني مع التجارب الرومانسية العربية؛ التي يعد حضور تأثيرها في لغته ومعجمه ومعانيه دليلاً على قوة التمثل قدر ما يعد دليل على مدى تناغم مفهوم الشعر عنده في جانبه النظري مع مفهوم الشعر كما يتحقق في النص، ومن أجل توضيح ذلك يستعرض مجموعة من نصوص الحضراني ويقارنها بنصوص لشعراء مثل إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل. مورداً في هذا السياق اعترافات للحضراني تدّعم استدلالاته.
ويذهب الجيلاني إلى أن سمات الحزن والألم والميل إلى الطبيعة وإلى التأمل، هي أهم سمات شعر الحضراني، وقد جاء ذلك في فصل عنوانه (الحزن والأم ومرادفاتهما في شعر الحضراني” وهو يستهل هذا الفصل بعتبة نصية منتزعة من أحد حوارات الحضراني جاء فيها ((هناك شيئان غامضان، هما الحب والشعر، ليس من السهل أن يعرِّفهما الإنسان، ولكن لكل إنسان طريقة خاصة لممارسة هذين الفنين: ممارسة الحب وممارسة الشعر)ص 297
والحقيقة أن نصوص الحضراني التي أمدته بهذا اليقين كانت كثيرة جداً، كما أن قدرة الجيلاني إلى ربط كل ذلك بفترة تكوين الحضراني ومعاناته في بعض سني طفولته كانت قوية وقادرة على إضاءة هذا الميل وتقريره، مع ذلك فهو يؤكد أن ما أورده في هذا الفصل عن هذه السمات ليس إلا جزءًا يسيراً من حضورها الواسع، كما ورد في ختام الفصل نفسه (تلك كانت إلمامة بمآثر الحزن والألم ومرادفاتهما في شعر الحضراني، وهي مجرد محاولة لإضاءة الخلفيات والمرجعيات، واستقراء بعض النصوص والتجليات، اقتصرت على فترة الأربعينيات بوصفها فترة تأسيسية في حياته الشعرية، وفي مذهبه في الكتابة إن جاز لنا أن نقول، والنصوص الواردة هنا ليست إلا قطرة من مطرة، فقد استولى هذا الهم على مدونة الحضراني الشعرية حتى آخر حياته، فإن يكن هذا التناول محكومًا بضرورة الإجمال، فإنه قد يهدي القارئ إلى تفاصيل كثيرة)ص313
وتحت عنوان (الحضراني شاعر الومضة والتكثيف) يقول الجيلاني إن مجموع نصوص الحضراني المتوفرة عددها (171) نصاً (وقد تبين أن قصائد الومضة، التي تتراوح بين البيت الواحد والأربعة أبيات يبلغ عددها أربعة وأبعين نصًا، وأن النصوص القصيرة المكثفة التي تتراوح أطوالها بين خمسة وتسعة أبيات يبلغ عددها اثنين وخمسين نصًا، وبذلك فإن مجموع النصوص الوامضة والنصوص القصيرة المكثفة يبلغ ستة وتسعين نصًا) ص314
ومعنى ذلك كما يذهب الجيلاني أن الكتابة الوامضة، وكذلك الميل إلى التكثيف سمة بارزة وقوية في تجربة الحضراني، وهو يدلل على ما يذهب إليه بمقارنة وجود هذا المنحى في شعره بوجوده في شعر غيره من سربه مثل الشامي، أو شعراء ممن تأثر بهم مثل إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل وأمثالهم حيث تثبت المقارنات أن الحضراني يتفرد فعلاً بهذه السمة.
والجيلاني يتتبع قوة تعبير الحضراني عن نفسه من خلال تلك النفثات الوامضة المكتنزة بالشعر، كقوله الذائع الصيت بين اليمنيين حين قيل له أن يستعد للإعدام بعد مشاركته في الانقلاب على الامام يحيى حميد الدين عام 1948م:
كم تحملت في سبيل بلادي
وتعرضت للمنون مرارا
وأنا اليوم في سبيل بلادي
أبذل الروح راضياً مختارا
أو قوله:
لا أحب العيش إلا قمة
إن تفت فالموت أعلى القمم
أو قوله يخاطب نديمه الشاعر المصري أمل دنقل:
هات كأسي وخذ لنفسك كاسا
نتسلى بها وننسى الناسا
سمحة تقتل الهموم وتأبى
أن تمس الشعور والإحساسا
ويتتبع الجيلاني المعاني الكثيرة التي طرقها الحضراني عبر قصائده الوامضة المكثفة؛ مقرونة بالكشف عن براعة الصور والمفارقات والتلاعب بالألفاظ، دون أن ينسى مقارنة نصوص الحضراني الذي يتفوق نصه رغم قصره على نصوص عديد الشعراء، سواء طرقوا نفس المعنى في نصوص قصيرة كنصوصه أو طرقوها في نصوص بالغة الطول، وفي هذا السياق يقارن نصوصاً للحضراني بنصوص لأبي مرة المكي وابن الرومي وابن حزم (صاحب طوق الحمامة) وإبراهيم ناجي وغيرهم.
ويذهب الجيلاني إلى أن إجادة الحضراني في النصوص التي تميل للقصر، ليست أقل من إجادته في النصوص الوامضة الكثيفة، ويعلل ذلك بقلة إرغام الحضراني نفسه على القول، جاء ذلك في فصل عنوانه (الشعر مرآة وجود الذات) وهو يتتبع فيه عديد النصوص التي صارت علامات في مسيرته الشعرية؛ مثل قصيدتية (الندامى) و (على قبر جوته)، ومثل مرثيتيه للشاعرين محمود حسن إسماعيل وعبدالله عبد الوهاب نعمان، ويقول في ختام هذا الفصل (وهكذا فإن الحضراني في كل ما عرضناه في هذه المقاربة وفي المقاربة السابقة عليها من نصوص؛ ميزتها الومضة أو الكثافة أو ميل النص للقصر، انكتبت كلها بعيدًا عن أية إملاءات، أعني أن النص فيها جميعًا كان ينكتب بوصفه كونًا موازيًا لوجود الشاعر، إنه مرآته التي تتمرأى فيها حياته بتجلياتها المختلفة) ص 357
ولا ينفصل رأي الجيلاني في قصائد الحضراني الطويلة عن رأيه الذي بسطناه سابقاً في بقية شعره، ففي فصل بعنوان (الحضراني والقصيدة الطويلة) يقول الجيلاني (إذا كانت المقاربات السابقة، قد أثبتت بالأدلة النصية ميل شاعرية الحضراني إلى الكتابة الوامضة وإلى النصوص الكثيفة، وأثبتت قدرتها على حماية النصوص القصيرة من الترهل والهيجانات اللفظية، وأثبتت أن ميوله تلك قد شكلت الجانب الأكبر من نصوصه الناجية من الضياع، كما أثبتت أن موجهات النصوص كانت ذاتية في كل أحوالها وتعدد موضوعاتها، وتلك سمة من سمات تشكل بصمة الحضراني الخاصة، فإن الثابت أيضًا أن الحضراني كتب مجموعة لا بأس بها من النصوص الطويلة نسبيًا، فثمة مجموعة من النصوص تتراوح أبياتها بين 21 و30 بيتًا، مجموع أبياتها 515 بيتًا، تتوزع تلك النصوص تحت عناوين مثل: (إلى ابنتي، نغم يترنح، شكوى صامتة، الشلال، صدى الشوق ، رثاء عبدالله الوزير، يا صديقي، رسالة، الذخر والمعتمد، مع مغترب جديد، لقاء الحبايب، في رثاء الزعيم النعمان، في رثاء هاشم طالب، موعدنا غدًا، الاحتفال بيوم النصر، فليعش رجال الفن والتجديد، يا قلبي، بين نفسي وبيني، مع حفيدي بعد عام 2000)، وهي أيضًا تتوزع على رحلة الحضراني الشعرية من مطلع أربعينيات القرن العشرين حتى تسعينياته، ففيها من فترة الأربعينيات نصوص مثل ( رثاء عبدالله الوزير، فليعش رجال الفن التجديد ، يا قلبي)، وفيها من فترة الخمسينيات (الذخر والمعتمد، الاحتفال بيوم النصر، )، وفيها من فترة الستينيات (أنا في العراق، رسالة، موعدنا غدًا)، وفيها من فترة السبعينيات (نغم يترنح ، شكوى صامتة، الشلال، صدى الشوق، مع مغترب جديد، رثاء هاشم طالب، بين نفسي وبيني، مع حفيدي بعد عام 2000 )، وفيها من فترة الثمانينيات( يا صديقي) وفيها من التسعينيات( في رثاء النعمان). أما همومها فتتوزع بين الاستعطاف والمديح (الذخر والمعتمد ، الاحتفال بيوم النصر) ورثاء رفاق الدرب من زعماء وأدباء مثل:( عبدالله الوزير ، عبدالله حمران، النعمان، وهاشم طالب)، والهموم الوطنية والقومية مثل:( مع مغترب جديد، لقاء الحبايب، رسالة، بين نفسي وبيني)، والهموم الوجدانية والشعرية التي تلتبس فيها الذات بالآخر، والحب بالتأمل، والطبيعة بتبدلات المصائر، والطموح إلى التجديد بالكتابة نفسها، وفي هذا المدار انكتبت قصائد مثل(نغم يترنح، شكوى صامتة، الشلال، صدى الشوق، فليعش رجال الفن والتجديد، يا قلبي).
الواضح من استقراء النصوص أنها قد انكتبت في مجملها بدوافع ذاتية، عدا نصين في الاستعطاف والمديح، والملاحظ أن طول القصائد في المجمل لم يؤثر على بناء القصائد وجودتها، ولعل من أجمل هذه النصوص وأكثرها امتلاءً بالحضراني في شاعريته، وتأملاته ورصده لرحلته وطريقة تفكيره في الشعر والحياة والحب والأصدقاء والسياسة، والموت ومآلات الوجود في تجلياتها المختلفة، قصيدته (صدى الشوق) وهي قصيدة كتبها لصديقه الشاعر أحمد بن محمد الشامي سنة 1978م)ص359، 360.
أما فصل (الإيقاع والأوزان في مدار التجربة الحضرانية) فهو فصل حافل بالتفلسف الذكي لكن ما يلفت النظر هو حرص المؤلف على ربط نوعية الإيقاع والموسيقا بمزاج وطبيعة الحضراني، وفي سبيل ذلك جمعت الكتابة بين الحصر والتحليل الفلسفي، فالحضراني (قد جمع في مسيرته الشعرية بين الطبع والمزاج والروح، وبين الوعي بالاشتغالات الإبداعية، وهو يبدو متوائمًا مع نفسه في ميله الغالب إلى الكتابة عبر بحر الخفيف ثم الرمل ثم السريع، كتب على بحر الخفيف ثلاثة وخمسين نصًا، وعلى بحر الرمل ستة وعشرين نصًا، وعلى بحر السريع خمسة عشر نصًا، وهذه البحور تشبه الحضراني كثيرًا، فهي تستجيب لثوريته الوجودية من جهة، وتستجيب لمواجيده الذاتية من جهة أخرى، فبحر الخفيف مثلًا يصلح لموضوعات الجدّ مثل الفخر والحماسة، لكنه يصلح أكثر لموضوعات اللين والرقة كالوجدانيات ونوستالجيا الحنين الناتجة عن الغرق في الرومانسية، وكثرة التأمل في تبدل المآلات وتغير المصائر والرثاء، كما تصلح للغزل الحسي، وهذه المعاني تشكل لب شخصية الحضراني، ولب تجربته الشعرية أيضًا، بدوره يمتاز بحر الرمل بالرقة؛ لذلك شاع استخدامه في مواضيع الغزل، والخمر، والمجون، واعتمد عليه شعراء الموشحات بسبب ملاءمته لأغراضهم الشعرية خاصة الغزل، والخمر، ووصف الطبيعة، ومجالس الأُنس، ومن منا يستطيع تصور الحضراني بدون هذه اللوازم فقد عاش حياته عاشقًا، لجمال الأنثى وجمال الطبيعة، وكان عطر مجالس الأنس، لا نديم مثله ولا أجمل من مشاركته، هو ذاته يتحول إلى كأس حميًا تشع أنسًا وشعرًا وتجليًا إنسانيًا يفوق الوصف، أما المجون فقد كان الجزء المسكوت عنه في حياته دون شك، لكنه كان معروفًا ومشهورًا، ومثل بحر الرمل البحر السريع، وهو ثالث البحور المفضلة عند الحضراني، إذ هو بحر سلس عذب يحسن فيه الوصف وتمثيل العواطف والانفعالات. فروحه تصب في روح الحضراني، وعالمه من عالمه.
بقية البحور كان حظها أقل من حيث عدد النصوص، لكن حظها من الجمال الشعري كان كبيرًا ووفيرًا، فنحن في النهاية لا نقارب تجربة شعرية لشاعر أي شاعر، وإنما نقارب تجربة الحضراني وهو شاعر كبير وتجربته عظيمة بكل المقاييس، وقد كتب ثلاثة عشر نصًا على البحر البسيط، وأحد عشر نصًا على بحر الكامل، كما كتب عشرة نصوص على المتقارب، وعشرة على بحر الطويل.
الاجتراحات الأقل عددًا تتمثل في نصين على بحر المنسرح، ونصين على بحر المديد، ونص على بحر الرجز.
أما المجزوءات فقد حظي مجزوء الكامل بثلاثة نصوص، ومجزوء الخفيف بثلاثة نصوص أيضًا، فيما كان نصيب مجزوء الطويل نص واحد، ومجزوء الرجز نص واحد. وثمة نص واحد على مُخَلَّعِ البسيط. أما بالنسبة للقافية فإنها كما يبدو لم تشكل همًا تجديديًا عند الحضراني، فهو رغم تماهيه في مفهوم الشعر الذي أنتجته مدرستا الديوان وأبولو ومعهما جماعة المهجر، إلا أن نصوصه التي تحفل بتعدد أو تنوع القوافي محدودة جدًا، فهو لم يفعل ذلك إلا في عشرين نصًا)ص387، 388.
كذلك فعل الجيلاني وهو يقارب بعض (سمات الصورة وتجلياتها في شعر الحضراني) فبعد مدخل فلسفي مستفيض عن الصورة ودورها المحوري في جعل الشعرا شعراً، يبدأ تلمس أبرز سمات الصورة في الشعر الحضراني، فيجدها شديدة الارتباط بمفهومه للشعر، وهو نفسه مفهوم الصورة الذي شاع (في كتابات شعراء جماعتي الديوان وأبولُو، حيث تميل الصورة عند شعراء هاتين الجماعتين إلى التغلغل في جوهر الأشياء فتكشف أسرارها من داخلها، وتبرز انعكاس الحالة النفسية والشعورية للشاعر من خلالها، فتتجلى كفيض من مشاعر وعواطف، ينطبع فيها الوجود كله بمحسوساته ومجرداته بذات الشاعر وحالاته. وهي في غالبها صور تلتبس بميل الشاعر إلى التأمل، وإن كان أحيانًا يترك للتداعيات الحرة أن تقوم بالمهمة كلها، وفي سائر شعر الحضراني هناك إبداع واسع في رسم الصورة، لكن التجاوز الذي يخترق المألوف قليل جدًا، مع ذلك فبصمته الدالة على خصوصيته لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال) ص402، 403.
-3-
وينتهي الجيلاني من ارتحالاته في حياة الشاعر إبراهيم الحضراني وسمات تجربته الشعرية إلى خلاصة يقدمها في نهاية الكتاب مفادها (أن شعره كان مرآة وجوده، في المقام الأول، فهو تعبير عن نفسه ووجدانه، وانعكاس لرحلته الوجودية بكل ما عرفته تلك الرحلة وما خبرته وجربته. وهو ينسجم في ذلك كله مع مفهومه للشعر بوصفه نبض القلب، وصوت الوجدان.
ومن خلال حس رومانسي، ومسحة حزن وألم وشعور دائم بالوجع وتوالي الخسرانات، وأسلوب جمع بين الميل للتكثيف والتأمل؛ صور الحضراني في شعره عواطفه وحالاته النفسية والشعورية، وعبر عن استجاباته تجاه مثيرات القول من أحداث كبرى وقضايا وطنية وقومية وإنسانية، أو وشائج أسرية واجتماعية وإخوانية، أو هموم فكرية وتأملات فلسفية تتعلق بالوجود ومآلاته. وقد فعل ذلك –غالبًا- بمزيج من الاندفاع المحسوب، والتأني المتأمل، مع وضوح الأفق الإنساني، والحس العالي بالجمال. والانحياز الكامل للحب وللحرية والتنوير، وهي سمات تليق بمقام شاعر كبير،ومثقف موسوعي ومناضل قل أن اتسم المناضلون بصفاته تعقلًا ومسالمة وخيرية.
وإذا كانت تجربة الحضراني تمثل أولى محاولات التجديد والخروج الواعي على التقاليد في الشعر اليمني المعاصر، فإن تأييده محاولات التخطي والتجاوز لم تتوقف حتى آخر العمر، إن لم يكن مؤيدًا متحمسًا عن إيمان وتحيزات حقيقية، فهو يفعل ذلك عن قناعة فكرية، وعن يقين بحتميات التبدل والتغيير، حتى لو كان التغيير يتجاوز ما نادى به، أو ينقلب عليه، أو يهمشه وينكره تمامًا.
وقد تحقق ذلك كله على مستوى حياته عامة، وعلى مستوى شعره عامة. كذلك على مستوى علاقاته بأطراف المشهد اليمني- وهو مشهد بحكم تركيبه، يلتبس فيه الاجتماعي بالسياسي بالثقافي بالإبداعي-، ظل الحضراني يحضر في كل الاتجاهات لا يعطي نفسه أو إيمانه أو يقينه كله لتوجه أو تيار أو اصطفاف أبدًا، فإن فعل ذلك في فترة مّا، فإنه سرعان ما يعدل الموجة، ليس لشيء إلا ليتواءم مع طبيعته التي ترفض العداوات، وتأنف العيش في قلق الاستفزازات والصراعات زمنًا طويلًا. ولعل هذا من أسباب ضياع الجزء الأكبر من شعره، لقد ظل الحب والفضاء الإنساني معتقده الأول، وقد عاشهما قدر الإمكان وقدر ما سمحت له ظروف اليمن المليئة بالصراعات والتجاذبات، وهذا نفسه ما حدث لشعره، فقد بقي لنا منه ما استطاع أن يبقى قدر الإمكان، وقدر ما سمحت به ظروف اليمن المليئة بالصراعات والتجاذبات)ص416، 417
ولا خلاصة بعد هذه الخلاصة في نهاية هذا العرض الذي قصدت أن يكون شاملاً وموسعاً، لأني قصدت منه تقديم تحية حقيقية لصديقي الشاعر والروائي والناقد علوان مهدي الجيلاني، فهذا الكتاب بما يحمله من عمق واستقصاء وجهد واضح ينبني على معارف ممتازة وثقافة موسوعية؛ ناهيك عن روعة الأسلوب وبراعة الاستهلالات والعناية باختيار العناوين؛ إنما يعبر عن كاتب غير عادي. كاتب يمتلك أدواته، ويعرف كيف يتعاطى مع مادة كتابته، من جهة أخرى فإن كتاب (الحضراني في الرمال العطشى) يقدم للقارئ العربي فرصة قل مثيلها لمعرفة جانب مهم في مسيرة الأدب اليمني الذي طالما غاب عنا.
*كاتب ناقد يمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى