الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

د. رزان جدعان: هل ماتت الثّقَافَة؟

د. رزان جدعان
في خِضَمّ حِيرَة الجَدَليَّات والنَّظَريَّات الحَدِيثَة ومَا بَعدها بين تَجَليَّات مَعنَى الثّقَافَة، يَسمَح القَلَم لِنَفسه تَعريف الثّقَافَة مِن مَنظُور وَاقِعي بِأنَّها جُزء مَن الحضَارَة المُستَمِرَّة عَبر الزّمَن، يأخُذ حَيّزًا تَفَاعُليًّا وزَمَنيًّا مِن خلال وُجُوده وتَطَوُّره في رَكبها. فَالثّقَافَة هي خَصَائِص المُجتَمَع التي تُمَيِّزه وتُعطِيه القُدرَة على الوُجُود، والتَّطَوُّر والتّعَايُش مع مُحِيطه بِشَكل، ومَضمُون ومَعاني تُعطيه شَأن عن غَيره مِن الكَيَانات البَشَريّة الأُخرى في نَواحي الحَيَاة المُختَلِفَة. فَكُلّ ثَقَافَة لَها سِمَاتها الاجتِمَاعيّة، والسّيَاسيّة، والاقتِصَاديّة، والدّينيّة، والفَلسَفيَّة، والأدَبيّة، والفَنِيَّة والريَّاضيَّة.
ويَجدُر بِالذِّكر هُنا، أنّ كُلّ حَضَارَة تَحتوي على ثَقَافَات مُختَلِفَة، تَتكَوَّن وتَنمُو اعتِمَادًا على بِيئَاتها المُحيطَة الطَّبيعيَّة والرَّمزيّة التي تَتفَاعَل معها وفيها.
استيحَاءً مِن البُنيَويَّة، فَإنّ كُلّ ثَقَافَة إنسَانيّة تَلعَب دَورها في بِنَاء حَضَارتها؛ لأنّ الثّقَافَة تَتكَوَّن بِنَاءً على أُخرى، تَلعَب دَورًا في بِنَاء ثَانيَة، ولها القُدرَة على التَّوَاصُل مع غَيرها، وَمِن ثَمّ تُؤَثِّر فيها وتَتأثَّر بِها في مَسِيرَتها التّواصُليَّة مع الكيَانات الحَيّة الأُخرى، مُؤَدّية إلى تَكَوُّن الحَضَارة والحَضَارات مِن خِلال الحَرَكيَّة المُستَمِرَّة عبر الزَّمَن!

يَتِمّ الاستِنتَاج مِن هذه المُقَدَّمَة أنّ الثّقَافَة هي الهويَّة، واللُّغَة، والقَضيّة، والمُعتَقَد، والقَناعَة والتّجربَة الإنسَانيَّة التي تَزيد أو تُنقِص مِن قَدرها في مَسيرَة حُضُورها عبر الزَّمَن.
هُنا يَطرَح التَّفَكُّر السُّؤَال عن الثّقَافات اليوم ومَا آلَت إليه مع التَّطَوُّرات، والتَّغَيُّرات، والأزمات، والإنجَازات والإخفَاقَات التي كَانت، وبَاتَت ولا تَزَال تَتَواصَل في دَورَة حيَاة المُجتَمعَات بين المَاضِي والحَاضِر ومُستَقبَلاتهما.
تَظهر الثّقَافات اليوم مَمحيَّة المَلامِح، مُشَوَّهَة المَعَالِم، مَمسُوخَة الهَيئَة، مُمَزَّقَة البِنَاء، مَبتُورَة السِّمَات، هَزِيلَة الحُضُور، تَائِهَة التَّوَاصُل، ضَلِيلَة التَّفَاعُل، مُتَقَطِّعَة الاستِمرَاريَّة، سَطحيَّة المضَامين، مُصطَنَعَة الشَّكل، فَوضَويَّة المَضمُون ومُشَرذَمَة المَعَاني.
فَفي الحُضُور الغَائِب هذا، أصبح الإنسَان -والشّرقي العَربي قَبل غَيره- يَخجَل مِن امتِلَاك الثّقَافَة الأصِيلَة في عَامّة العَولَمَة العَالميّة، أصبَح يُخفي سِمَاته الثّقَافيّة لإرضَاء أطبَاع العَالَم الجديدة، وخَوفًا مِن النَّبذ إلى العُزلَة المُخِيفَة! أصبح يُحرَج الإنسَان مِن التَّعبير عن ذَاته بِضَاديّة اللُّغَة الفَصِيحَة، قَلَقًا مِن ألَّا يَجِد مَكَان له في مُحِيطه الثّقَافي وبَينه مَا بَعد الحَديث، وصَار مُتَكَسِّر اللُّغَة ونَاقِصها مُعَوِّقًا إيَّاها ومُعِيق لِذَاته. وصَار يَضَع نَفسه في مَوقِع اضطّرَار تَبرير لُغَته، وعَادات وتَقَاليد أُصوله وكَرَامَة وقِيَم ثَقَافته، وأصبح يجبر نَفسه على التَّنَازُل عن أصَالته وأخلاقه وكُنوز ثَقَافته لِيُلائِم العَصر، ولكي يَرضَى عنه مُجتَمَع الأكثَريّة مَا بَعد الحَدِيثَة ويَتقَبَّله في إطَاره المُطَبَّع والمُدَجَّن بِاتِّجَاهات ضَاقَت آفَاقها وحُدِّدَت!
أضحَت المُجتَمعات تُغَيّر في الإدرَاكَات والسُّلوكَات الغَنيَّة التي أنجَزَتها عبر التّجربَة والتاريخ إلى رَجعيّة مَا بَعد حديثَة، تَتبَنّى مُطلَقيّة اجتِمَاعيّة، وديكتَاتوريّة سِيَاسيّة، واحتِكَاريّة اقتِصَاديّة وأخلاقيّة غَابويّة بِشَكل مُجَمَّل، ومَضمُون مُحَوَّر، ومَعَاني مُخَوَّرة تُطَبَّق بِمعَايير عَصريّة، تَطَوَّرت إليها المُجتمعات وتَصِفها عُقول اليوم بِالمُتَقَدّمَة!
وتَتويجًا لِكُل هذه المُستَجَدَّات الثّقافيّة والحَضَاريّة وبَينها، يَصِير الإنسَان الأجدَد هذا: يَحترم -بِإرَادته أو بِدُونها- الهَمَجيّة العَالميّة، ويُوافِق على السُّكوت على العُنصُريّة الجديدة، ويَستَسِيغ العُبوديّة المُعَولَمَة، ويَستَسلِم لِلاستِعمَارات الدبلومَاسيّة، ويَقبَل الاصطِنَاعيّة الاجتِمَاعيّة والمُشَاركَة في سَطحيَّة التَّواصُل، وإلغَاء الحُريّة مُقَابِل حُريّة العَولَمة، واستِبدال الإنسَانيّة بِإنسَانيّة الأنظِمَة الجديدة وذَكَاءاتها الاصطِنَاعيّة بِآليّتها المُتقَنَة. وكُلّ تَغَيُّرات المُجتَمعات هذه، لِأَجل أن يَتَّسِع العَالَم للإنسَان لِلعَيش بِأمَان مقَاييس نُفُوذات العَولَمة وتأمين قُوت العَيش.
هل هُنَاك بَقَاء لِحَيَاة كَريمَة في تَشَابُكَات العَصر الجديد هذه؟ هل هُنَاك حَيَاة لِثقَافَة إنسَانيّة رَزِينَة في فَوضَى الإدرَاكَات العَالميّة وتَصَوُّراتها لِبِنَاء مَعمُورة كَيَان الإنسَان؟ هَل هُنَاك مَسَاحَة لِكَينُونَة الهَويّة الأصِيلَة بِلُغَتها، وأخلاقها، وقِيَمها، وفَلسفَاتها وحُضُور جَوهَرها بين مُتَغَيّرات العَوامِل؟
لقد كَان يَتَوقَّع التَّفَكُّر بِأنّ الثّقَافَات وحَضَاراتها سَتَتَطَوّر إلى الأفضَل على دَوام الوُجُود، إلَّا أنّ واقِع الزَّمَن اختَلَف عبر التَّاريخ إلى الحَاضِر. فَبَعد كُلّ الإنجَازات الجَبَّارة التي وَصَلَت إليها المُجتَمعات في بِنَاء، وتَطوير، وتَحديث، وتَشذيب وصَقل ثَقَافَاتها إلى حَضَارات يَخلُد أثَرها في قَلب مُجتَمعَات وأرَاضِي المَاضِي، والحَاضِر والمُستَقبَل؛ كَيف تَصِل إلى مَا يُرَاقَب اليوم في عَولَمَة مُتَقَدِّمَة جِدًّا مَاديًّا ومُتَخَلِّفَة بِشِدَّة مَعنَويًّا، تُنَظِّر في الإنسَانيّة وحُقُوقها والمُسَاوَاة بِدِقَّة عِلميّة مُتقَنَة، وتُطَبِّق العَكس تَمَامًا بِتَحيُّزاتها، وعُنفها، وجَهلها، ولا أخلاقيَّتها، وسَطحيّتها، ومَاديّتها، وهَدميّتها، وتَجَاهُلها لِكُلّ ما هو بَنّاء وتَجَنُّبها له في مُعظَم الأحيَان.
كُلّ هذه التَّسَاؤُلات تَعني الاستِفهَام عن وُجُود الإنسَان، وبَقَائه وإمكَانيَّات الاستِمرار بِطمُوح دون ضُمُور؟ -إضَافَةً إلى نَظَريّة ابن خلدون في اندِثَار الحَضَارة بعد وُصُولها إلى أعَالي مَراحِل الارتِقَاء والتَقَدُّم في دورة استِمراريّة الحياة-.
هل مَاتَت الثَّقَافَة وكَينُونَة الهَويَّة في سِيَاقَات عَصر اليوم مَا بَعد الحَديث؟ أم لا تَزَال مَوجُودة، ويُمكِن إحيَاءها بِنَاسها ذوي العُقُول الوَاعيَة والعَارِفَة بِذَاتها، وأسَاسها وأهَميَّة بِنَاء سِمَاتها مِن الدَاخِل، انطِلَاقًا إلى الخَارِج والمُحِيط وآفَاق مَعمُورة الوُجُود، لِإعادة إقامَة الثّقَافَات الأصليّة وكَينُونات هَويَّات تَبني ظَاهِرَة عَولَمَة تَحتوي جَميع المُجتَمعَات، وتَتَّسِع لِطَبِيعيَّة التَّفَاعُلات الإنسَانيّة، وذلك لإنجاز طموح الوُضوح، والشَّفَافيّة، والتّكَامُل، والرّشَاد، والجَمَال، والمَعرِفَة البَنَّاءة والإنسَانيّة “الإنسَانيّة” لِلحفَاظ على وُجُود الكَيَان بِشَرَف وأخلاقيّة وكَرامة؟!
في النّهاية، ليس بِالضّرورة أن تَتَوحّد القَناعات وتَتناسَخ بَديهيّاتها -كما تفرض عولمَة الأكثَريّة على فِكر المُجتَمعَات اليوم-، بل يتَطلّب إحياء الثقافة إدراك طَبيعيّة اختِلَاف بِنَاءات الفِكر بين العَوالِم، والتَّوجُّه نحو الائتِلاف وتَبَنّي وَعي المُشَاركَة، لِلوصُول إلى جدليَّات تُبدِع في التَكوُّن مِن جَوهر فِكري يُبَادِر فيه الجميع بِرصَانَة وجلالة إلى نَتائِج بُنيَويَّة مُشتَركَة ومُتَجَدِّدَة على الدَّوام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى