الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

تحت سماء بلون الرماد

محمد عبد حسن

الغواص نيوز

(أطفال مجهولون).. و(مجهولون أطفال). هكذا كنتُ أقرأ، بلا يدين ولا قدمين، ما خطّته يدٌ عجلى على اللفائف البيض المرصوصة، واحدة جنب الأخرى، خلف خندقٍ طويل لمْ تنتهِ جرّافة، تصدر صوتًا يشبه العويل، من حفره بعد.
أشخاص عديدون، بين مراقب ومنتظر، يقفون وأيديهم معقودة على صدورهم أو خلف ظهورهم، آخرون تستند أكّفهم على خصورهم الضامرة. وفيما الجّرّافة مستمرّة تعمل في طرف الخندق البعيد؛ قفز بعض منهم لتسوية قاع الحفر بأيديهم. ومع أنّهم لم ينتهوا من ذلك، أو يكادوا؛ أشاروا إلى الواقفين في الأعلى لمناولتهم الجثث.
بدأت الأكياس البيض تُصفّ في الخندق الطويل بمسافة قدمٍ، وربما قدمين، بين كيسٍ وآخر. وكما لو أنّهم يودّون الانتهاء سريعًا من عملهم خوفًا من قادم مجهول أو دورة قصفٍ جديدة؛ أشاروا إلى الجّرّافة، وكانت قد اقتربتْ منهم بعد أنْ أنهتْ عملها هناك، للبدء بردم الخندق. وحين أتمّتْ ذلك ابتعدتْ لتسوية أكوام التراب على الأرض المجاورة تاركة كومًا واحدًا لم تجدْ مكانًا تدفعه إليه.
وكَمَنْ ينتظر تركه وحيدًا ليمارس عملًا سرّيًّا أو طقسًا مُحبّبًا؛ كانت الأكفان هناك تُفتح.. تنفض الأيدي والأكفّ المقطوعة التراب عن الوجوه، تمسحها بعناية براحِها محاذرة ما يبدو أنّها جروح غائرة؛ فتبتسم تلك الوجوه وكأنّها قد استفاقتْ مِنْ حلم لذيذ!
يحدث ذلك بين اللفائف البيض التي دُفنتْ قبل قليل. وكما لو كنتُ ما أزال هناك: أراهم يتقاسمون الأعضاء الموزّعة في الأكياس.. يتبادلون بعضها وهم يضحكون. وعندما انتهوا؛ نفضوا الأكياس البيض ثم أعادوها، بعناية، إلى أماكنها في الخندق.
وحين بدأوا يتفقدون أنفسهم أولًا.. ثم بعضهم بعضًا؛ وجدوا أنّ لأحدهم يدًا لا تشبه يده الأخرى، ولآخر قدمًا أطول بكثير من قدمه الثانية وبلون مغاير! مازحوهما قليلًا وهم يضحكون. ثم ابتعدوا، كلّهم، بعد أنْ أشاروا إلى اثنين، وربما ثلاثة منهم، لينضمّوا إليّ حيث كنتُ أقف: عند زاوية جدار منتصب، وحده، بعد قصف شديد تعرّض له المبنى.
استقبلتهم ضاحكًا.. فلم يكن لي يدين لأحتضنهم بهما. وفي فترة الهدوء القصيرة تلك.. كنّا نتعارف، ونتحدث عن الظروف التي أوصلتنا هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى