الشاشة الرئيسيةمقالات

الهزيمة الكاملة..

كتب :نقيب الصحفيين
راكان السعايدة
بصرف النظر أكانت مقترحات الرئيس الأميركي لإنهاء العدوان على غزة جاءت من بنات أفكار إدارته أم من “إسرائيل”، فهي اعتراف ضمني بهزيمتهما معا.
وإن كانت الحقيقة تقول إن الهزيمة الاستراتيجية تحققت بالفعل في 7 تشرين أول/أكتوبر، وكل ما تلاها هو مجرد تداعيات لا أكثر ولا أقل.
على أي حال، ثلاثة أسباب رئيسة حفّزت أميركا لإعلان مقترحات لصفقة تبادل ووقف الحرب: الأول: استحالة النصر العسكري الكامل. والثاني: تشظي المجتمع الإسرائيلي داخليًا وتحول الكيان الإسرائيلي إلى دولة منبوذة دوليا. والثالث: التداعيات السلبية على الإدارة الأميركية الحالية ورهانها على انتخابات وشيكة.
قدّرت إدارة الرئيس الأميركية جو بايدن أن “إسرائيل” ستحسم حربها وتحقق أهدافها في أسابيع قليلة، وعلى أكثر تقدير خلال أول ثلاثة أشهر، غير أن ذلك لم يحدث إطلاقًا.
وهو ليس بوارد أن يحدث رغم إمعان “إسرائيل” منذ ما يزيد عن ثمانية أشهر في حرب الإبادة؛ تقتيلًا وتجويعًا وتدميرًا، بل أصبحت عالقة تُستنزف وتنزف وتغرق في رمال غزة.
وعلينا أن نتذكر جيدًا أن الكيان الفاشي وضع هدفين أساسيين لعدوانه: الأول: محو حركة حماس، عسكريًا وحكمًا مدنيًا. والآخر: استعادة أسراها من دون صفقات أو تسويات.
هذان الهدفان تيقنت أميركا ونخب سياسية وعسكرية “إسرائيلية” من استحالة تحقيقهما، لا هما ولا مسألة التهجير، لكن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، ولأسباب شخصية، تمسّك بهما تحت عنوان تحقيق النصر الكامل طيلة الأشهر الماضية.
ماذا يعني كل ذلك..؟
أميركيًا: يعني ذلك أن الإدارة الأميركية بقيادة الديمقراطي جو بايدن تريد تحقيق عدة أهداف، من بينها:
أولًا: إنقاذ الكيان الإسرائيلي من مأزقه الراهن؛ ومن تعاظم عزلته دوليًا، ومن قرارات محكمتي الجنائية الدولية والعدل الدولية.
ثانيًا: إنقاذ الكيان من مستنقع غزة، فأميركا تعي أن الغرق في رمال القطاع يعني استنزاف “إسرائيل” وأميركا معًا ولسنوات طويلة بدون تحقيق أي نتائج حاسمة.
ثالثًا: إنقاذ الكيان من بنيامين نتانياهو نفسه ومن اليمين المتطرف المتحالف معه، فأميركا ربما تراهن الآن على إعادة تموضع القوى السياسية في “إسرائيل” بما يحيل المتطرفين إلى هامش الحياة السياسية ويبعدهم عن الحكم.
رابعًا: أميركا تريد إسرائيل حليفًا قويًا، عسكريًا وسياسيًا وشعبيًا، ولا تريد لهذا الكيان أن يتعمق تشظيه ويتعاظم انقسامه، فهو لا يزال بالنسبة إليها قلعتها المتقدمة الموثوقة.
خامسًا: أميركا أيضًا تريد إنقاذ نفسها بعدما تهشمت صورتها عالميًا، وفي أوروبا والعالم العربي بشكل أكبر، وهو أمر واضح جلي لا يحتاج لتوضيح وتبيان في ظل دعمها السافر لإجرام “إسرائيل”.
سادسًا: شكّل الحراك الشعبي الأميركي، وفي الجامعات تحديدًا، مأزقًا كبيرًا لإدارة بايدن الذي بات يخشى خسارته وحزبه الديمقراطي الانتخابات الرئاسية المقبلة لصالح الجمهوري دونالد ترمب.
سابعًا: تريد واشنطن أن تستكمل خطتها الاستراتيجية في إدماج الكيان الصهيوني في المحيط العربي، وذلك بتحقيق تطبيع “تاريخي” مع السعودية، بما يقصي نهائيا القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين ويجعلها في ذيل الاهتمامات الدولية والإقليمية
هذه كلها عوامل ضاغطة على الإدارة الأميركية لتبديل أو تعديل مقاربتها للعدوان على قطاع غزة، فـ”إسرائيل” تُراكم الفشل تلو الفشل، وغزة صامدة لم تمنح الكيان ولو صورة نصر صغيرة ولا كبيرة.
“إسرائيليًا”: باستثناء نتانياهو وحليفيه المتطرفين إتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريش (سنعود لموقفهم لاحقًا) فإن نخبة عسكرية وسياسية وقسم لا بأس به من الجمهور “الإسرائيلي” يريد إنهاء الحرب، ومن بين أسبابهم:
أولًا: فشل المستويات السياسية والعسكرية، بعد أكثر من ثمانية أشهر على أطول حرب تخوضها “إسرائيل”، من تحقيق أبرز هدفين: القضاء على المقاومة وتحرير الأسرى.
ثانيًا: قناعة هذه النخب بأن مواصلة الحرب باتت مسألة عبثية تستنزف كيانهم وتحكم على أسراهم بالموت.
ثالثًا: كيانهم خسر التعاطف العالمي، رسميًا وشعبيًا، وهو تعاطف كان جارفًا بداية العدوان، لكنه تحول في الأشهر الأخيرة إلى غضب عالمي، رسميًا وشعبيًا، من هول وبشاعة الإجرام الذي يرتكب بحق قطاع غزة وأهله.
رابعًا: فضلا عن الفشل العسكري والاستخباري منذ 7 تشرين أول/ أكتوبر، فالكيان يدفع ثمنًا اقتصاديًا كبيرًا، كما يعاني انقسامًا حادًا وتشظيًا عميقًا بين مكوناته، وبما يستحضر عُقَدَ “العقد الثامن”.
خامسًا: إدراك النخب أن اليمين المتطرف الحاكم يأخذهم إلى المجهول، ويضعهم على الحافة، ورغم أن “إسرائيل” في عمومها تميل في السنوات الأخيرة إلى اليمين، إلّا أن ما يقوم به الثلاثي (نتانياهو وبن غفير وسموتريش) يأخذهم إلى نهاية الكيان.
هذه الأسباب تلتقي عمليًا، وفي كثير منها، مع المخاوف الأميركية والإدراكات المتأخرة نسبيًا، لذا؛ فنخب عسكرية وسياسية “إسرائيلية” باتت متحالفة مع المقاربة الأميركية وتدعمها علنًا في مشهد غير مألوف “إسرائيليًا”.
لكن، ماذا عن اليمين الحاكم..؟
الأكيد، أن أميركا وضعت نتانياهو في الزاوية تمامًا، ولم يعد لديه فرصة رفض المقاربة الأميركية، لكنه، وكالعادة، لا يزال يراهن على إفشال بن غفير وسموتريش لهذه المقاربة، وهو ما صرحًا به علنًا، وربطهما بين الخطة الأميركية والبقاء في الحكومة.
وهذا الثلاثي (نتانياهو وبن غفير وسموتريش) يعلم يقينًا أن المقاربة أو الخطة الأميركية المقترحة ستعني التالي:
أولًا: انتخابات مبكرة تُخرِج الثلاثي من الحكم، وتحولهم إلى قوة معارضة داخل الكنيست.
ثانيًا: سجن نتانياهو على قضايا فساد، يضاف إلى ذلك إمكانية محاكمته على الفشل العسكري والسياسي، وبالتالي ذهابه إلى مزبلة التاريخ. والمعارضة إن منحت نتانياهو شبكة حماية لتمرير الخطة الأميركية فهي ستكون حماية مؤقتة.
ثالثًا: سقوط أو في أقله تجميد ملف ضم الضفة الغربية، ومشروع “إسرائيل الكبرى”.
لذا، ومن الناحية الواقعة فاليمين الإسرائيلي الحاكم سيحاول بكل الطرق إفشال الخطة الأميركية، وإذا قبلها فلا يُستبعد أن يشن حربًا على لبنان ليبقى ممسكًا بالحكم.
إن الحصيلة النهائية لمجمل العدوان على قطاع غزة هي أن هذه الكيان بات هشًا ضعيفًا؛ يتآكل من الداخل وفي الخارج، وبات عبئًا على حلفائه، وفقد هيبته وقوة الردع التي مكنته من أن يمارس نفوذًا كبيرًا في المنطقة وعليها.
هذا درس، ودرس كبير جدًا، للعرب والمسلمين؛ لا تراهنوا على “إسرائيل” وإن أقنعتكم بانها “حليف موثوق”، فالغدر شيمتها، ومشروعها الكبير سيكون على حسابكم، ولا يمكن أن يقوم إلّا على حسابكم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى