الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

مقتطفات من كتاب «درء المجاعة عن العراق» لوزير التجارة العراقي السابق محمد مهدي صالح الراوي

الحلقة الأولى… علي صالح لصدام: الحرب واقعة… والهدف تدمير الجيش العراقي

الغواص نيوز
يقدّم الدكتور محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي السابق، في كتابه الجديد «درء المجاعة عن العراق – مذكراتي عن سنين الحصار 1990 – 2003» (الذي يصدر قريباً عن دار «منتدى المعارف»)، رواية مفصلة عن الجهود التي قام بها على رأس وزارته للتصدي للعقوبات التي فُرضت على العراق في أعقاب غزوه الكويت عام 1990 واستمرت حتى الغزو الأميركي للعراق عام 2003. لكن الكتاب لا يتوقف فقط عند الجانب الاقتصادي البحت للعقوبات، والوسائل التي لجأ إليها العراقيون للالتفاف عليها خلال «سنوات الحصار» الطويلة، بل يقدّم أيضاً صورة لما كان يدور سراً –ويُحكى به همساً أحياناً– من نقاشات وخلافات بين أركان حكم الرئيس الراحل صدام حسين.

يتحدث الراوي بصراحة لافتة عن الخلافات التي كانت تعصف بنظام حكم صدام، وجزء منها مرتبط بالفريق حسين كامل زوج ابنة الرئيس العراقي قبل انشقاقه على عمّه عام 1995، وينقل عن صدام قوله في أحد الاجتماعات لحسين كامل الذي كان رئيساً لهيئة التصنيع الحربي: «صواريخك لا قيمة لها إذا جاع شعب العراق».

عمل الراوي في ديوان الرئاسة العراقية منذ العام 1982، وكان، كما يقول، على «تواصل مباشر» في العمل مع صدام حسين على مدى سبع سنوات، ولغاية تعيينه وزيراً للتجارة عام 1987. بعد الغزو الأميركي عام 2003، اعتُقل الراوي في سجن كروبر وكان يحمل الرقم 35 على لائحة «المطلوبين» الشهيرين للأميركيين من قادة النظام المنهار. ظل محتجزاً حتى العام 2012، وهو يعيش حالياً في الأردن. «الشرق الأوسط» تنشر، اليوم وغداً، مقتطفات من كتاب الراوي قبل صدوره:

يكتب الراوي في كتابه «درء المجاعة عن العراق»: «… في فترة حكم الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف تمّ قطع العلاقات الكاملة مع الولايات المتّحدة الأميركية لمساندتها العدوان الإسرائيلي عام 1967 في احتلاله لمزيد من الأراضي العربية (الضفة الغربية وسيناء). وبقيت تلك العلاقة مقطوعة بعد ثورة (…) يوليو (تموز) عام 1968. وشارك الجيش العراقي بثقل كبير في حرب 1973 واستمرّت العلاقات مقطوعة مع أميركا لغاية عام 1982 حيث زار دونالد رامسفيلد بغداد مبعوثاً من الرئيس الأميركي رونالد ريغان. عرض في اللقاء، كما ذكر في كتابه (المعروف وغير المعروف)، وأيّده سكرتير الرئيس -آنذاك- حامد يوسف حمادي كما أبلغني في الزنزانة التي كنّا أنا وهو معتقلين فيها بعد احتلال العراق، في مقترح مدّ أنبوب للنفط عن طريق الأردن إلى ميناء العقبة، وإنشاء مصفى. وسأل الرئيس الراحل صدام حسين رامسفيلد فيما إذا كانت أميركا ستقدّم ضمانات بعدم تعرّض هذا المشروع لعدوان إسرائيلي، ولكن المبعوث الأميركي لم يعطِ أي ضمانات، وترك الموضوع الرئيس، ولم يطلب الرئيس الراحل -كما يقول رامسفيلد- أي مساعدة من أميركا في الحرب مع إيران بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاعها، والتي كان يتوقّع رامسفيلد أن يطلبها الرئيس العراقي الراحل. ولكن كانت الزيارة تمثّل بداية فتح علاقات تجارية ومن ثمّ دبلوماسية بين البلدين».

أُعيدت العلاقات الدبلوماسية بالفعل عام 1986، ولكن سرعان ما انهارت بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية. يقول الراوي: «في غمرة احتفالات الشعب العراقي بالنصر على إيران وافق مجلس النواب الأميركي، وبضغط من اللوبي الصهيوني المعادي للعراق، على فرض عقوبات على العراق في 22-9-1988 وذلك بعد خمسة وأربعين يوماً من توقّف الحرب. وتمّ إقرار مشروع فرض حصار أحادي الجانب من الولايات المتّحدة على العراق بموجب… لائحة التحريم (الإبادة الجماعية لعام 1988). ونصّ مشروع القرار (…) على إدانة العراق باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد».

ويتحدث الراوي عن قوة العراق النفطية قبل الحرب مع إيران وبعدها، فيقول: «لم يكن العراق بحاجة إلى القروض والتسهيلات الائتمانية في عقد السبعينات، خصوصاً بعد تأميم النفط الذي اتّخذ قراره الراحل صدام حسين حينما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة مع رئيس مجلس قيادة الثورة رئيس الجمهورية الراحل أحمد حسن البكر، حيث ازدادت عائدات النفط من مليار دولار سنوياً إلى أن وصلت 26.4 مليار دولار عام 1980…»… لكنه يوضح: «لم يكن الإنفاق العسكري المتزايد طوال فترة السنوات الثماني للحرب العراقية – الإيرانية السبب الوحيد في تراكم الديون على العراق التي كان بدايتها منتصف عام 1984، وإنما أيضاً بسبب الانخفاض الكبير في إيرادات النفط جرّاء توقّف تصدير النفط عبر المنفذ الجنوبي الذي كان يصدّر العراق من خلاله ما يقارب ثلثي صادراته المحدّدة من قبل الأوبك، حيث أصبح المنفذ المذكور ضمن نطاق القصف الإيراني اليومي، بالإضافة إلى إيقاف سوريا التصدير من خلال الأنبوب المار عبر أراضيها إلى البحر المتوسط بطاقة تصدير تصل إلى 800 ألف برميل يومياً عام 1982 مساندة لإيران في حربها مع العراق، ما أسهم بالفعل في تراكم نصف ديون العراق البالغة 42 مليار دولار (عدا ديون الخليج) عند انتهاء الحرب عام 1988، ولم يبقَ سوى أنبوب النفط التركي بطاقة نصف مليون برميل يومياً».

ويضيف أن انخفاض أسعار النفط في منتصف الثمانينات كان له «تأثير كبير في الوضع الاقتصادي» إذ تم اتخاذ «إجراءات تقشفية» في كثير من القطاعات بهدف ضمان عدم تأثر «خطط تأمين الغذاء والدواء والنفقات الخاصة بدعم المجهود الحربي». ويوضح: «لأوّل مرّة يتمكّن قطاع التصنيع العسكري بعد تولي صهر الرئيس الفريق حسين كامل مهمّة الإشراف على القطاع المذكور من تأمين نسبة عالية من احتياجات القوّات المسلّحة من الأعتدة الخفيفة وأعتدة المدفعية والقنابل وفقاً للتقارير الدورية التي كانت تَرد إلى الدائرة الاقتصادية من هيئة التصنيع العسكري بالإضافة إلى تطوير مدى الصواريخ لتصل إلى طهران، والتي كان لها تأثير في نتيجة الحرب لصالح العراق. ولقد تولّى الهيئة قبل الفريق حسين كامل كلّ من جواد لاوند، والفريق عامر السعدي، والفريق الركن الطيار جسام الجبوري، ولفترة قصيرة حامد يوسف حمادي». ويتابع: «(…) تبنّت قيادة التصنيع العسكري المتمثّلة بالفريق حسين كامل وكوادر التصنيع وبموافقة الرئيس، سياسة التوسّع في بناء القاعدة الصناعية الحربية. وإنتاج السلع الحربية المتطوّرة، والوصول إلى حلقات متقدّمة في تكنولوجيا الإنتاج الحربي، والعمل على استكمال برنامج الطاقة الذرية السلمي والحربي بعد أن تمّ نقل مهمّة ذلك من هيئة الطاقة الذرية إلى هيئة التصنيع العسكري. ومع ذلك كلّه أعطى الرئيس الراحل أولوية لتسديد ديون العراق. كانت تلك الأهداف العديدة والكبيرة والطموحة (…) تتطلّب موارد مالية ليست بالقليلة. وكان العراق الذي يمتلك ثاني احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية، وأصبحت لديه طاقات تصديرية تصل إلى أكثر من أربعة ملايين برميل يومياً عن طريق المنفذ الجنوبي للعراق وعن طريق تركيا والسعودية، ولديه تفاؤل بتأمين الموارد الماليّة لتحقيق تلك الأهداف بالإضافة إلى تسديد الديون التي تحققت على العراق إبان الحرب الإيرانية – العراقية. وكان هذا التفاؤل يستند إلى استمرار التحسّن في أسعار النفط التي وصلت إلى 18 دولاراً للبرميل».

ويوضح: «لقد كانت عائدات النفط لا تلبّي الأهداف المشار إليها سابقاً. وبدأ التنافس الحاد بين هيئة التصنيع العسكري، وبين بقية الوزارات والجهات المسؤولة عن تنفيذ خططها المدرجة في المنهاج الاستثماري، والموازنة الجارية. ولقد أصبح الفريق حسين كامل بحكم السمعة التي اكتسبها في تطوير الإنتاج الحربي في السنوات الأخيرة من الحرب مع إيران، وصلة القرابة والمصاهرة من الرئيس الراحل، صاحب الكلمة الأولى في الدولة بعد الرئيس الراحل صدام حسين الذي كان بالإضافة إلى كونه رئيساً للجمهورية، رئيساً لمجلس الوزراء في الوقت ذاته. وتمّ تعيين الفريق حسين كامل نائباً لرئيس اللجنة الاقتصادية (غرفة العمليات الاقتصادية سابقاً)، والتي أصبح يرأسها نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية الدكتور سعدون حمادي، وعضوية وزراء التجارة، والمالية، والتخطيط ومحافظ البنك المركزي (وكنت آنذاك أتولّى مسؤولية وزارتي التجارة والمالية في آن واحد) ليؤثّر في القرار الاقتصادي لصالح هيئة التصنيع العسكري ووزارة الصناعة على حساب القطاعات الأخرى».

ويقول الراوي: «رغم اعتراضي المتواصل في اللجنة الاقتصادية ولجنة الموارد الماليّة على هذا الموقف الجديد فإن رئيس اللجنة وأعضاءها الآخرين لم يكونوا قادرين على معارضة نائب رئيس اللجنة. وحينما علم الرئيس الراحل بالأمر اتّصل بي هاتفياً وطلبني على عجل وأن أجلب معي الحاسبة التي يعلم الرئيس الراحل بأنها لا تفارقني وذلك لشرح الموضوع. وكان حاضراً في اللقاء لطيف نصيف جاسم، عضو القيادة القطرية ووزير الثقافة والإعلام. على أثر اللقاء ألغى قرارات اللجنة الاقتصادية فيما يتعلّق بجميع تخصيصات وزارة التجارة في المنهاج الاستيرادي المقترح لعام 1990 والتي تمّ تقليصها من اللجنة الاقتصادية، وأضاف خمسمائة مليون دولار إضافية لفقرة الغذاء، وطلب مني الظهور في ندوة تلفزيونية مع رئيس المؤسّسة العامّة للإذاعة والتلفزيون ماجد السامرائي، للإعلان عن تخصيص نصف مليار دولار لشراء لحوم وحليب كبار وأجبان للشعب العراقي بسبب التحسّن في أسعار النفط. وأبلغ الرئيس الراحل الفريق حسين كامل بحضوري وحضور عضو القيادة القطرية لطيف الدليمي بأن (صواريخك لا قيمة لها إذا جاع شعب العراق)».
– هيئة التصنيع العسكري

ويوجه الراوي انتقادات لكشف هيئة التصنيع العسكري عن إنتاجها إعلامياً والمبالغة فيه، قائلاً: «بدلاً من المنهج السرّي المعتمد من الدول المنتجة للأسلحة وعدم الاعتراف بالمحظور منها رغم إنتاجها لها، فإن المشرف على هيئة التصنيع العسكري وكوادره القيادية تبنّوا سياسة مغايرة، وذلك بالإعلان عن برامج وخطط ومنتجات التصنيع العسكري من دون التحسّب لردود الفعل الدولية، خصوصاً الولايات المتّحدة الأميركية وإسرائيل، حيث كان يتمّ الإعلان عن تلك البرامج قبل الوصول إلى الإنتاج الفعلي للأسلحة والمبالغة في الإعلان عنها وكشفها، خصوصاً السريّة منها أمام بعض الزائرين من الرؤساء والملوك. وكان الفعل الإعلامي الأوسع نطاقاً والأكثر ضرراً على التصنيع العسكري وعلى العراق هو إقامة معرض للصناعات العسكرية على أرض معرض بغداد الدولي التابع لوزارة التجارة، ودعوة وسائل الإعلام المحلّية والعربية والدولية، ودعوة سفراء الدول المقيمين والوفود لزيارة أجنحة المعرض والاطّلاع على المنتجات وعلى الخطط المستقبلية من خلال الشروحات التي كان يقدّمها ممثّلو هيئة التصنيع العسكري في أجنحة المعرض للزائرين. ولقد صادف أن رافقت بعض المسؤولين ومنهم نائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان، واستمعت إلى شروحاتهم المبالغ فيها. وكان هذا الإجراء بحدّ ذاته يمثل عنصر استفزاز وتحريض للإدارة الأميركية وإسرائيل اللتين كانتا تتابعان كلّ خطوة لها أثّر في تهديد أمن إسرائيل».
– غزو الكويت والعقوبات

يقول الراوي عن فترة ما بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990:

«كوني وزيراً للتجارة، ووزيراً للمالية بالوكالة، عندما فرض الرئيس بوش الحصار الأميركي الشامل على العراق، وجمّد أرصدته وممتلكاته في الولايات المتّحدة، توجّهت صباح يوم 3 أغسطس (آب) 1990 إلى البنك المركزي للاطّلاع على موجودات العراق من العملة الصعبة في البنوك الخارجية وفي خزائن البنك المركزي. طلبت من محافظ البنك صبحي فرنكول والذي كان من الكوادر المصرفية المهنية البارزة في العراق أن يبدأ فوراً بتحويل أرصدة العراق المودعة في البنوك كافة خارج العراق إلى البنك المركزي الأردني، إلا أنه اعتذر عن تنفيذ ذلك باعتبار أن البنك المركزي ليس مرتبطاً بوزير الماليّة وإنما مرتبط مباشرة بديوان الرئاسة في رئاسة الجمهورية. وطلب أن أستحصل موافقة رئيس الجمهورية. اتّصلت بسكرتير رئيس الجمهورية حامد يوسف حمادي، لعرض الموضوع على الرئيس لاستحصال موافقته والذي أجابني بعد ساعتين بموافقة الرئيس على السير بالإجراء». ويتابع: «أما في داخل العراق فلا توجد مبالغ بالعملة الصعبة مودعة في البنك المركزي أو في مصرفي الرافدين والرشيد الحكوميين سوى مبالغ عائدة للسفارات الأجنبية والمنظّمات الدولية لتغطية نفقاتها المحلّية وكمية من الذهب مودعة في خزانة البنك المركزي اشتراها محافظ البنك المركزي الأسبق حسن النجفي في فترة السبعينات ولم يتمّ بيعها في الثمانينات في أثناء الحرب الإيرانية – العراقية بسبب انخفاض سعر أونصة الذهب عن سعر الشراء البالغ 450 دولاراً للأونصة آنذاك. وقدّر المحافظ قيمتها بما لا يتجاوز خمسمائة وخمسين مليون دولار بالإضافة إلى المخشلات الذهبية التي تبرعت بها الماجدات العراقيات لدعم المجهود الحربي في أثناء الحرب الإيرانية – العراقية، والتي قدّر المحافظ قيمتها بحدود خمسة وخمسين مليون دولار (…) في ضوء ذلك أصبح الرصيد المتاح من العملة الصعبة الذي هو بيد الدولة بحدود 700 مليون دولار. وهذا المبلغ يشكل 28 في المائة من الحاجة السنوية للغذاء المستورد».

ويروي الراوي قائلاً: «في يوم 13-8-1990 طلبني الرئيس الراحل مع وزير الزراعة والري محمود الصباغ، واجتمعنا معه في كرفان في إحدى مزارع الرضوانية. وأبلغنا بأن نستعدّ للحرب. وأبلغني في الاجتماع أن أبدأ فوراً بخزن القمح والشعير تحت الأرض (بطريقة الجفر باللغة المحلّية) لحمايتها من الضربات الجوّية المتوقّعة على صوامع خزن الحبوب إذا نشبت الحرب، وكذلك تشتيت الخزين الغذائي في مواقع متفرّقة في بغداد والمحافظات وللغرض نفسه. كما تمّ اعتماد سياسة دعم أسعار شراء الحبوب (القمح والشعير والأرز) بأسعار مشجّعة من وزارة التجارة تعلن سنوياً. ووافق على طلبي حصر الذهب المتاح لدى البنك المركزي لأغراض البطاقة التموينيّة. كما وافق على طلبي إعادة استحداث الشركة العامّة للمطاحن والأفران التي تتولّى إنتاج الدقيق والخبز والصمون، وتشرف على المطاحن والمخابز العائدة للقطاع الخاصّ، والتي تمّ دمجها مع شركة تجارة الحبوب عام 1988 ضمن حملة ترشيق أجهزة الدولة، وإعادة تعيين مديرها العام السابق غازي الربيعي. وصدر بعد يومين قرار من مجلس قيادة الثورة بذلك، كما أبلغني الرئيس بإيقاف تجهيز النخالة إلى وزارة الصناعة تحوّطاً للاضطرار إلى استخدامها للاستهلاك البشري».

وعن الاستعدادات العراقية لحرب تحرير الكويت عام 1991، يقول الراوي: «تمّ تأمين حاجات كلّ محافظة من الموادّ الغذائية والحبوب كافة لكي لا يحصل عجز في خزين أي محافظة في أثناء الحرب ويصعب إيصال الغذاء لها من المحافظات الأخرى من خلال المناقلة التي تجري في الظروف الاعتيادية. وتمّ التركيز في الخزين الاستراتيجي على محافظتي كربلاء والنجف لأنهما محافظتان دينيتان يُستبعد أن تتعرضا للقصف الجوّي. والأمر نفسه بالنسبة إلى محافظات الحكم الذاتي التي عُدّت هي ومحافظتا كربلاء والنجف من المحافظات الآمنة. ويضاف إلى ذلك إبلاغ أصحاب المطاحن والأفران في بغداد والمحافظات بتأمين خزين كافٍ من الوقود لاستمرار عملهم إذا تعرّضت المنشآت النفطية للقصف الجوّي (…)

قبل أسبوع من انتهاء المهلة الزمنية من مجلس الأمن للعراق سافرت إلى عمّان، ومنها إلى اليمن للقاء الرئيس الراحل علي عبد الله صالح للسماح للوزارة بنقل حمولة باخرة السكر، والتي تمّ تفريغها في ميناء الحديدة من الشركة الناقلة مباشرةً بعد فرض الحصار، إلى ميناء العقبة الأردني. وصلت إلى العاصمة صنعاء وكان الرئيس علي عبد الله صالح في مقرّه الثاني في عدن. رافقني في سفرتي إلى عدن الدكتور محمد سعيد العطار وزير الاقتصاد اليمني. وأصدر الرئيس اليمني موافقته على السماح بنقل الباخرة حسب طلبي. وذكر في أثناء دعوة الغداء أن رأي القيادة اليمنية أن الحرب ستحصل، وأن التجمّع العسكري لقوّات التحالف هدفه الأساسي هو تدمير الجيش العراقي، والحرب ستقع في كلّ الأحوال، وطلب نقل هذه الرسالة إلى الرئيس، وتمّ إبلاغ الفريق عبد حميدي مرافق الرئيس بذلك».

ويتحدث عن بدء الضربات الأميركية في يناير (كانون الثاني) 1991 قائلاً:

«لقد كنت أتابع مع المديرين العامّين نشاط شركات وزارة التجارة في بغداد ومديري الفروع في بقيّة المحافظات (…) اشتدّ القصف الجوّي على الطريق، ورسم خطّاً نارياً شكّلته سلسلة القنابل من طائرات تبيّن لاحقاً أنها بـ52 على يسارنا في الجهة الأخرى للطريق السريع المتوجّه نحو البصرة يتحرك بالاتّجاه الذي نسير فيه. كانت الكتلة النارية المتحرّكة لو انحرفت بالملليمترات من الجو لكنا داخلها. عندها شعرنا بأننا اقتربنا من النهاية، ولكن إرادة الله أنقذتنا. استمرّ الوضع على هذه الحال، والقصف المتبادل شديد لمدّة ثلاثة أرباع الساعة. بدأ القصف يخفّ فطلبت من السائق أن يفتح الضوء الجانبي ثمّ الضوء العادي لحين خروجنا من الطريق السريع إلى مدينة الناصرية عبر الطريق القديم. وصلنا إلى مدينة الناصرية منتصف الليل وهي في ظلام دامس… وعند دخولنا المستشفى أُصبنا بصدمة لا تقلّ عمّا شاهدناه في الطريق، حيث جثث الشهداء من المدنيين مكدّسة في ممرّات المستشفى نتيجة حملة جوية عنيفة على الناصرية». ويقول: «لقد تعدّت الحملة الجوّية لقوّات التحالف هدف إخراج القوّات العراقية من الكويت لتحمل خطّة تدميرية للعراق وتقويض كلّ المنجزات التي حققها والتي ليس لها علاقة بالحرب».
– صدّام يرفض عرضاً حول التسوية في الشرق الأوسط

> يقول الراوي في كتابه: «بتاريخ 4 أغسطس (آب) 2010، أخبرني سكرتير الرئيس الراحل حامد حمادي ونحن معاً في الزنزانة نفسها في سجن الحماية القصوى في الكاظمية العائد لوزارة العدل العراقية بعد انتقالنا من معتقل كروبر تحت سلطة القوّات الأميركية منذ اعتقالي في 23 أبريل (نيسان) 2003، أنّ الرئيس الراحل قد كلّفه بكتابة مذكراته، واقترح عليه عنوان (كنت سكرتيراً للرئيس صدام) وقد أكمل كتابتها في المعتقل، حيث يتمتع بذاكرة قويه صافية، وكان كفؤاً ودقيقاً في أداء عمله كسكرتير مع ميزة التغطية الكاملة والدقيقة للقاءات الرئيس مع الضيوف. وكانت القيود المفروضة على سرّية المعلومات قد انتهت بعد احتلال العراق. وتعرّفت على حامد يوسف حمادي، لأوّل مرّة عند مباشرتي العمل في رئاسة الجمهورية بداية الشهر الأول من عام 1982، حيث كان يشغل منصب مدير الديوان مع صديق الرئيس الشخصي حاتم العزاوي المستشار السياسي، وصديقه الشخصي الآخر اللواء صادق شعبان، والدكتور حكمت عمر الحديثي، بالإضافة إلى اللواء طارق حمد العبد الله سكرتير الرئيس أحمد حسن البكر رئيس الجمهورية الذي استمرّ بعمله حينما تولّى الرئيس الراحل منصبه كرئيس للجمهورية في يوليو (تموز) عام 1979. (وكان هؤلاء الثلاثة عند مباشرتي العمل يشكّلون الكادر المتقدّم في ديوان الرئاسة). ولقد كان المتوقّع أن ينشر تلك المذكّرات، إلا أنه انتقل إلى جوار ربّه بعد بقائه في غرفة الإنعاش على جهاز التنفس الصناعي في دبي لمدّة تزيد على نصف عام، وجدت نفسي مضطراً لأن أشير إلى المعلومة التالية التي لها صلة بموضوع القوّة العسكرية والصناعية التي خرج العراق بعد انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية، وصلتها بقضية الصراع العربي – الصهيوني. وتتلخّص المعلومة وحسبما أوردها مضموناً وليس نصّاً:

في يوم 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 سافرت بطائرة خاصة إلى جنيف في سويسرا لتسلم رسالة من شقيقه برزان، ممثّل العراق الدائم في جنيف، موجّهة إلى الرئيس صدام حسين من جهة لم يشأ ذكرها. وتضمّنت فحوى الرسالة الموجّهة إلى الرئيس بأنكم خرجتم بقوّة عسكرية وصناعية في التسليح لا يحتاج إليها العراق بهذا الحجم بعد انتهاء الحرب. ونحن لا نطلب منك أن تقبل بمشروع التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين ولا أن تكون جزءاً منه. ولكن الذي نطلبه أن تكفّ يدك عن إسرائيل، وألا تتدخّل بين الطرفين في حلّ الموضوع، وتتخلّى عن موقفك المتشدّد. ونحن ليس لدينا تحفظ أن تكون أقوى زعيم في المنطقة. ويستطرد حامد يوسف حمادي: قدّمت الرسالة في ملف البريد بعد عودتي. وبعد عشر دقائق عادت الرسالة وعليها تعليق الرئيس نصّ قول الرسول ﷺ: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه». يقول دخلت على الرئيس وقلت له: سيدي ما التوجيه الذي أبلغ به؟ فأشار بيده إلى التعليق. واتّصلت هاتفياً بشقيق الرئيس برزان لأبلغه بعدم الموافقة. وكان الردّ: أريد جواباً واضحاً. فقلت له: تأتي إلى بغداد لتسلمه. وحينما وصل الجواب إلى مصدر الرسالة كان رد الفعل: ضاع العراق».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى