الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

عفيف قاووق: قراءة في رواية “حقيبة من غمام” للأديب محمد عبد السلام كريّم

عفيف قاووق
حقيبة من غمام هل هي رواية واقعية شهد الكاتب أحداثها أم هي من نسج خياله؟

فإذا كانت واقعيّة كما يظن البعض إنطلاقا من الإهداء الذي يقدّمه الكاتب لكلٍّ من مروة وأحمد ومعتصم، فقد استطاع أن ينقل لنا الأحداث بصدقٍ وبواقعيّة مؤلمة، وإذا كانت من نسج خياله فقد أبدع في اختلاق الأحداث وتطويعها على نحوٍ من شأنه أن يزيد قناعة القارئ بها وتجعله جزءً منها؛ تاركاً لنا نحن القرّاء مكاناً، سواء في مخيّم اليرموك أو على متن سفينة الرعب، وهذا هو الابداع لأيّ روائيّ يحترم القارىء.

خلال تصفّحنا لهذه الرواية، بحثاً عن الحقيبة التي حملها العنوان، نكتشف أن السفينة كانت بمثابة تلك الحقيبة المقفلة على أكثر من سبعماية مهاجر مُقبِلين على المجهول.
رواية زاخرة بالمشاعر، أبدع الكاتب بأسلوبٍ سرديّ شيّق بعيدا عن التعقيد، فجاءت صادقة ومؤلمة في آنٍ معاً. كما تمكّن الكاتب من أن يجعل القارىء ينجذب لإكمال القراءة ويتفاعل مع هذه الصعوبات والأهوال التي اعترضت أولئك الهاربين من جحيم الوطن.
يُشير الكاتب بداية إلى الأحداث والإضطرابات التي اجتاحت الوطن السوريّ بمعظمه، وينطلق من مخيّم اليرموك في دمشق ويُسهب بلسان بطلة الرواية في توصيف هذا المخيّم والتغنّي به، قبل أن يتحوّل إلى ساحة صراع ويحلّ الخراب والدمار في معظم أحيائه ومبانيه فتقول: “كان المخيّم بيتاً ليس للفلسطينيين وحسب، بل لكلّ من ضاقت بهم الأحوال، فجاؤوه وافدين، سواء في الأزمة السوريّة أو قبلها. كان يضجّ بالحياة كما لو أنّه مَصنعا لها، كان قلباً نابضاً لكلّ فلسطينيّ يقيم في سوريا.
كما تشير الرواية إلى حال الذعر والخوف التي تحكّمت بحركات وسكنات سكّان المخيّم بسبب المعارك العبثيّة التي اجتاحته، فتقول الساردة : كنَّا جميعًا نخشى المجهول الذي لا يمكن لأحدنا أن يتنبّأ به. ما إن يخرج أحد من أحبّتنا من بيته، حتى تشتعل نيران الخوف والقلق في صدورنا خوفًا من مكروهٍ قد يصيبه. ونتيجةً لهذا الخوف وفقدان الأمن والأمان في المخيّم، كُتِبَ على سكانه تهجيراً قسريّاً آخر بعد تهجيرهم الأول من فلسطين.

أشارت الرواية إلى استغلال التجّار لحاجات الناس، والإرتفاع الجنوني لأسعار المواد والسلع، وهذا ما حصل مع محمد عندما توجّه لتأمين الخبز لعائلته، لكن البائع رفض بيعه كيسا من الخبز إلا إذا دفع أكثر من خمسة أضعاف ثمنه.
ثم تسرد الراوية المرحلة الثانية من معاناتها، سيما بعد زواجها وتفكيرها جدّياً بمغادرة سوريا باتجاه تركيا أملاً في حياةٍ أكثر أمنًا. والهجرة إلى تركيا ستكون تهريباً، بما تحمل من مجازفة. تقول الراوية في وصفها لعمليّة التسلّل إلى الأراضي التركيّة “ركضنا متجاوزين تحذيرات الجنود الأتراك إلا أنهم أخذوا يطلقون النار علينا.
ويبدو إن مسلسل الهجرة يكاد لا ينتهي عند الفلسطينيّ، لذا اتّجهت أنظار الراوية الى أوروبا وبدأت تعدّ العدّة للهجرة إليها طمعاً في الحصول على جنسيّة أوروبيّة، لما تقدّمه هذه الجنسيّة من مكتسبات وحوافز، فتقول: “مع إدراكي، شأني شأن كل الفلسطينيّين، بأنّه باستخدام وثيقة السفر الفلسطينيّة، لا نستطيع دخول معظم الدول العربية. وبمجرّد الحصول على جنسيّة أوروبيّة، سيكون من السهل الحصول على عقد عملٍ مُجزٍ، حتّى في دول الخليج.
وفي سردها ليوميّات الهجرة من تركيا باتجاه أوروبا تهريباً، تصف الساردة المَهانة التي يتعرّض لها المهاجرون على أيدي المهرّبين تقول: “طلب منّا أحد رجال التهريب أن نتبعه ونحن نخفض رؤوسنا، امتثلنا للأمر لأننا في درب اللجوء، ونحن بلا وطن، نضطرّ أن نطأطىء رؤوسنا كثيرا”. وفي موضعٍ آخر تشير إلى غدر المهرّبين بهم وعدم الوفاء بوعودهم فلم تكن السفينة التي أبحروا بها سياحيّة كما وعدهم المهرّب بل كانت سفينة قديمة عمرها أكثر من ستين عاما، تحمل بداخلها أكثر من سبعمائة مهاجر من مختلف الجنسيّات. وتدخلها المياه والأمطار من خلال فتحات السقف والأرضيّة أيضاً نظراً لتآكل حديدها.
أبدع الكاتب في توصيف ما تعرّض له المهاجرون خلال رحلتهم هذه، وذكر كيف كانت حجرة المحرّك العملاق الملاذ الوحيد لهم طلبًا لتجفيف الملابس والدفء. وكيف عمل أحمد ومعتصم على تجميع مياه الأمطار بعد نفاذ مياه الشرب في السفينة مع حِرصِهماعلى جمع الماء من الأعلى قبل أن يغيّر الصدأ مواصفاته. لتبدأ معاناتهم الحقيقية مع ورود أنباء بأنّ السفينة ستواجه في الساعات القادمة عاصفة يبدو أنها عنيفة، وهنا يسيطر الكاتب على مشاعر القارىء ويجعله متوتّراً ومتحفّزاً لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور بسبب تلك العاصفة، وقد برَعت الساردة في نقل الحدث بطريقةٍ تخالُ نفسك إلى جانبها، تلاحظ كيف أنّ السفينة بدت وكأنّها تواجه تلّة رمليّة تحاول اعتلاءها، فما تلبث أن تنزلق إلى الخلف ثمّ تتقدّم بتثاقلٍ كما لو أنها مقيّدة بسلسلة، لتأخذ بعد ذلك بالتحرّك كما لو أنّ مقدّمتها ترتفع عالياً ثم تهوي. أما حال الركّاب، فكانوا عرضةً للتقاذف والإنزلاق داخل العنبر، تقول الراوية : كُنَّا ننزلق مع كلّ تمايلٍ، لأننا شأن كل المهدّدين بالغرق، لم نجد ما نتشبّث به.
جولةٍ أخرى من الرعب طاولت المهاجرين بعد أن ارتفعت مقدمة السفينة إلى علوٍّ هائل، كفرسٍ جموح تحاول رميَ من عليها حتى هَوَت في المياه، راميةً بالمئات ممّن كانوا في مؤخّرة العنبر إلى مقدّمته فوق بعضهم البعض. ولكي تكتمل رحلة العذاب هذه بكل صنوفها كانت المياه التي تمُرّ عبر هذه الشقوق تنزل على رؤوس المهاجرين حمراء ممتزجة بالصدأ نتيجةً لتآكل حديد السفينة.
بالرغم من كلّ هذه المتاعب التي اعترضت المهاجرين، إلّا أنّ الكاتب أبرَزَ لنا حالةً من التعاضد والتعاطف بينهم تمثّلت في اهتمام الساردة بالطفل ورد وتكفّلت بالاعتناء به طيلة الرحلة، بعد ان أصابت أمّه الحمى التي أدخلتها في غيبوبة . وفي موضعٍ آخر، طلبت الساردة من أبناء أختيها أن يأتوا بالسيّدتين اللّتين كانتا من ضمن مجموعتهم في العنبر إلى غرفة المحرك لأجل تجفيف ملابسهما ولينعما بقسطٍ من الدفء الناجم عن حرارة المحرك.

إضافة إلى الساردة وحِسّها الإنساني ، فإن أحمد ومعتصم أيضا إمتازا بروح المسؤولية، وشرعا في مساعدة المهاجرين بل أكثر من ذلك لعِبا دوراً لافتًا في فضّ النزاعات التي كانت تنشب بين المهاجرين.

ويختم الكاتب رحلة الرعب هذه بإيصال المهاجرين إلى إيطاليا بعد طول معاناة تاركاً للقارىء أن يرسم الخطوة الثانية لكل مهاجر من هؤلاء.
وليس مستغربا من أي كاتب فلسطيني أن يُضمّن روايته بعض الايحاءات والثوابت السياسيّة، ومن هذه الثوابت حق العودة ، ففي وصفها لمخيّم اليرموك، تقول الراوية بأنّه كان أشبه بمدينة مستقلّة لما يحتويه من مشافٍ ومدارسَ وأسواق تجاريّة، لكنه آثر الإبقاء على صفة المخيّم. كان وطناً صغيراً ومؤقتاً بانتظارالعودة إلى فلسطين. وفي موضعٍ آخر، وفي عمليّة ربطٍ بين يوم نزوحها عن المخيّم ويوم نزوح جدّها من فلسطين، تقول يوم 16/12/2012 محفور في الذاكرة كرسم مفتاح دار جدّي الذي ما عاد إليه يوماً بعد أن نزح عنه.
وفي محاولةٍ لقراءة الأحداث التي شهدها مخيّم اليرموك وغيره من مناطق سوريا، إستحضرت الساردة عبارة أبيها حيث قال: أخشى ان الأحداث أشتعلت في تونس لتصل إلى دمشق« وفي موضعٍ آخر، تذكّرت آخر عباراته التي لا تزال تستوطن أذنيها وهي : “يا خوفي تكون هالحرب كلّا مشان نخسر فلسطين… نخسرها للأبد« وهنا الشيء بالشيء يذكر، فما نشهده حاليا من إقتتال فلسطينيّ-فلسطيني في مخيّم عين الحلوة الذي لا يقلّ أهميّة عن مخيّم اليرموك، بل يفوقه للكثير من الإعتبارات، فهو مخيّم حق العودة بما تعنيه الكلمة من معنى، ولكن الخشية كلّها هي أن يصيبه المصير نفسه الذي أصاب مخيّم اليرموك.
وفي نقدٍ واضحٍ لبعض المسؤولين في أوطاننا، عمِدت الساردة إلى المقارنة بينهم وبين قبطان السفينة فتقول: ” أيّ قدرٍ أن نكون رهنًا لقبطان هنا وآخر هناك. هذا لا يعرف القيادة وذلك سفينته مهترئة وآخر بحّارته مقعدون. هل هذا قدرنا نحن الفلسطينيّين، أن نبقى بلا قبطان يحسّ بمن يقود، يُحسن التخطيط، يستشعرالمخاطر ومتمكّن من أدواته وعناصره؟”.
إضافة إلى مقارنة القبطان بسياسيّي هذه الأوطان أيضا، تورد الراوية أوجه الشبه بين المهرّبين وهؤلاء السياسيّين، فكما أنّ المهرّب غرّر بالمهاجرين، فقد فعل سياسيّونا الشيء نفسه وهرّبوا القسم الكبير من أرضنا ومقدّراتنا.
إشارة مؤلمة ذكرتها الرواية في موضوع الهجرة، مشيرة كيف أنّ بعض الأُسَر السوريّة التي لم تتمكّن من توفير(مال التهريب) اكتفت بإرسال قاصرٍ مع بعض أقاربه على أن يقوم هذا القاصرعند وصوله بإجراءات لمّ شمل الأسرة بكاملها. وللإجابة على الساردة التي تتساءل كيف لأبيه أن لا يفترض ألف افتراض قبل أن يرسله، وأيّ يأسٍ ذاك الذي يجعل الرهان ولداً من اولادنا ؟ أقول: لا أحد يرمي ابنه في قارب الموت إلّا لإعتقاده بأنّ البحر أكثر أمانا من الوطن.
سؤالٌ آخر يبقى بدون إجابة شافية: لماذا إصرار المهاجرين على المجازفة بركوب البحر باتجاه اوروبا رغم ما يتهدّدهم من مخاطر؟ ألا يمكنهم أن يحاولوا العيش في تركيا مثلا بدل أن يكونوا طعاماً مفترضًا لأسماك المتوسط؟ كما قالت الراوية بعد أن شعرت باقتراب الموت منهم. هل طمعاً في الجنسيّة الأوروبيّة التي تمنحهم حرّيّة التنقّل بين أقطار العالم؟ فتراهم يراكمون على أنفسهم ديوناً ومستحقاتٍ لتسليمها للمهرّب، في حين أن هذه المبالغ يمكن إستثمارها في أيّ عملٍ يعود عليهم بمردودٍ ماليٍّ لا بأس به.
ختاماً، مباركٌ للأديب محمد كريّم هذا الإصدار الوثيقة على أمل اللقاء به في إصدارتٍ لاحقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى