الشاشة الرئيسيةمقالات

الادارة الاستراتيجية ….الحل الذي لايريده البعض …. الفوسفات انموذجا

د.عبدالمهدي القطامين
كباحث اكاديمي في مجال الادارة الاستراتيجية وبحكم متابعاتي لتطبيقات الادارة الاستراتيجية في مختلف دول العالم وكيف عملت هذه الادارات على انقاذ شركات كبرى من الافلاس والخروج من السوق هناك عدة امثلة لشركات كبرى امريكية استطاع رؤساؤها التنفيذيون او رؤساء مجالس ادارتها انقاذها واعادتها الى السوق بحيوية وفاعلية من خلال جملة من الاجراءات التصحيحية التي اتت اكلها ولم اشاهد شركة عربية واحدة ضمن هذه القوائم والتي تدرس عمليات انقاذها كحالات دراسية تستحق الاشادة …
احد الامثلة التي تدرس في مجال الادارة الاستراتيجية هي شركة امريكية كبرى في عالم الطيران تدعى “كونتينتال إيـرلايز”
في العام 1994، كانت شركة “كونتينتال إيـرلايز” الأميـركية واحدة من أكبر شركـات الطيران في العالم (تأسست في العام 1934) تعاني من أزمة وجودية جعلتها على شفا الإفلاس للمرة الثانية. مشاكل وعقبات إدارية ومالية هائلة جعلت الشركة في طريق محقق للاختفاء من الأسواق.

في وسط هذه الأزمات، تم تعيين ” غوردان بيثون ” كرئيس للعمليات في الشركة بهدف إنقاذها من الإفلاس المحقق الذي تواجهه، وانتشالها من القاع الذي يبدو أنها التصقت به. عندما تولى غوردان إدارة الشركة كانت تحقق خسائر تقدر بـ 55 مليون دولار شهـرياً، فضلاً عن وضع الشركة في قائمة أسوأ الشركات من حيث مستويات الخدمة، شكـاوى العملاء من فقدان الحقائب، تأخيـر الرحلات، التعامل مع شكـاوى العملاء. باختصار: كانت السفينة تغرق بالفعل.
وسط هذه التحديات في كل النواحي، قرر غوردان بيثـون التركيز على شيء واحد فقط: رضـا العمـلاء. كان بيثون من مدرسة الإدارة التي ترى أن خدمة العمـلاء هي أهم شيء على الإطلاق لإعادة إحياء الشركات الغارقة، وهو ما قام باتخاذه بأقوى طريقة ممكنة. قام الرجل بالتحرك على ثلاثة اتجاهات: إغلاق كل المسارات الروتينية، تفعيل كل الخدمات التي تقوم بتحقيق أرباح، إعادة التفاوض بخصوص ديون الشركة وجدولتها من جديد. والأهم: وضع كافة موظفي الشركة في حالة الطوارئ لتنفيذ خطـة مُحكمة أساسها خدمة العمـلاء وتحقيق رضـاهم في كل قطاعات الشركة بدءا من حجز التذاكر، وليس انتهاءً بتوصيل الحقائب.
خلال 12 شهـراً فقط من تنفيذ خطة الطوارئ تلك، استطـاعت الشركة أن تحقق أرباحا كلية قدرها 224 مليون دولار، بعد أن كانت قد حققت خسائراً في العام الماضي قدرها 613 مليون دولار. هذه النتيجة المذهلة جعلت الشركة تقوم بتصعيد “بيثون” من مدير عمليـات الشركة إلى مديرها التنفيذي ورئيس مجلس إدارتها لتوسيع صلاحياته بشكل أكبر والعمل على تحقيق المزيد من الإنجازات لإنقاذ الشركة.
خلال الأعوام العشـرة التي تولّى فيها غوردان بيثون إدارة الشركة، حققت كونتينتال ايرلاينز نجاحاً مذهلاً، حيث صعدت من المركز الأخير في كل عناصر تقييم المستوى إلى الفوز بجوائز عالمية أهمها “J.D Power and associates” في مجالات رضا العمـلاء أكثر من أي شركة طيران أخرى. كما أدرجت مجلة البيزنس ويك اسم غوردان بيثون كواحد من أقوى مدراء العالم في العامين 1996 و1997، وصعد سهـم الشركة من القاع حيث كان يساوي 2 دولار فقط إلى 50 دولار للسهم الواحد. كما اعتبرت مجلة الفورتش شركة كونتينيتال ايرلاينز من أفضل الشركات التي يمكن العمل بها في الولايات المتحدة لستة سنوات متتالية.
هنا وجدت ان اساهم بحالة دراسية تكون الى جانب الحالات التي تستحق ان تدرس جنبا الى جنب مع الشركات العملاقة التي تم انقاذها واعني هنا حالة شركة مناجم الفوسفات الاردنية المساهمة العامة هذه الشركة التي تعد من كبريات شركات التعدين في الاردن والاقليم والتي بدأت في العام 1954 وكانت تدار ضمن عقلية ونهج اداري اعتيادي روتيني منذ نشأتها وادت الممارسات الادارية الاعتيادية تلك الى تصنيفها ضمن الشركات القائمة والتي تنمو ببطء السلحفاة ما ادى الى تعثر في الاداء في العشرية الاولى من القرن الحالي وبدأت الشركة تحقق خسائر بلغت ذروتها في العام 2016 حيث وصلت خسارتها في ذلك العام 90 مليون دينار وبدأ شبح التصفية يلوح في الافق كخيار مقترح صحيح انه كان مزعجا وقاتلا لكن في عالم الادارة يعتبر ايقاف الخسارة نوعا من الربح وهي اداريا تسمى استراتيجية الانسحاب من السوق …. بدأت الدولة تبحث عن حل وفي ظل وجود رئيس حكومة نشط ويعتبر من اصحاب الخبرات المميزة في الهندسة الصناعية وهو الدكتور هاني الملقي فقد اسر الى عضو مجلس الادارة انذاك د.محمد الذنيبات عن واقع الحال وعن ايجاد الية ادارية تمنع الشركة من الذهاب الى اشد الحلول وقعا والما وهو قرار التصفية .
احتاج عضو مجلس الادارة الذي يحمل درجة الدكتوراه في علوم الادارة واشغل عدة وزارات في وقت سابق الى مدة شهرين كاملين لدراسة ملف الشركة من الالف الى الياء ودراسة امكانية البقاء من عدمه وبعد تلك المدة حمل الملف الى الرئيس الذي ينتظر الجواب ليقول …نعم بالامكان انقاذ الشركة لكن شريطة عدم تدخل اي جهة حكومية في اجراءات تصحيحية يتخذ فيها قرارات ستكون قاسية احيانا .

كان الاجراء الاول من الحكومة هو اختيار الدكتور الذنيبات رئيسا لمجلس الادارة باجماع اعضاء المجلس ليكون له حرية اتخاذ القرار الاداري الاستراتيجي دون معارضة و كان ذلك في شهر اذار من عام 2017 وكانت الشركة قد اغلقت بياناتها المالية في العام السابق 2016 على خسارة بلغت 90 مليون دينار مع مديونية ناهزت 500 مليون دينار ومع اجراءت تصحيحية بدأها الرئيس الجديد تم تخفيض الخسارة الى 40 مليون دينار في العام2017 ومع حلول عام 2021 تمكنت الشركة من طي صفحة المديونية كاملة وتسديد ما عليها من التزامات وتحقيق صافي ارباح بلغت زهاء 336 مليون دينار لتقفز ارباح الشركة الصافية عام 2022 الى ما يزيد عن 735مليون دينار وفي العام 2023 بلغ صافي الارباح 454 مليون دينار اما في العام 2024 فقد بلغت الارباح الصافية 462 مليون دينار .
وهنا يقفز التساؤل او السؤال الاستراتيجي ما الذي جرى ؟وكيف تمكن الربان من انقاذ السفينة التي كانت على وشك الغرق ؟ واين كان الخلل ؟ولماذا تم السكوت على الوضع الكارثي الذي كانت تعيشه الشركة؟
تعالوا بنا نناقش بعض الاجراءات والقرارات التي تمت ، وكيف كان المال يهدر من الشركة التي كانت تبيع ترابا ومع ذلك تخسر .
في اول زيارة لرئيس مجلس الادارة الى الهند والى اندونيسيا وهما سوقان تقليديان لمادة الفوسفات، يقول د.الذنيبات في حديث تلفزيوني موثق بالكامل فوجئت عند زيارتي لاندونيسيا بان هناك سيدة استقبلتني في المطار واوصلتني الى الفندق حيث اقيم بان عرفت على نفسها بانها مندوبة الشركة هناك وينحصر عملها في استقبال مسؤولي الشركة عند زيارتهم تلك الدولة ربما مرة واحدة في السنة ثم يضيف د.الذنيبات الامر نفسه تكرر في الهند وكان المستقبل هذه المرة رجلا وعرف نفسه على انه مندوب الشركة في الهند …حين عدت من الزيارة طلبت ملفي المندوبين لافاجأ بان كل واحد منهما يتقاضى ما يقارب مليون ونصف المليون دولار في السنة مقابل تلك الخدمات الجليلة وكان من اول القرارات التي اتخذها رئيس المجلس هو انهاء عقدي هذين المندوبين وتوفير ٣ مليون دولار من اموال كانت تدفع عبثا وبلا جدوى .
في مجال التعدين كانت الطامة كبرى فقد اعتمدت الشركة سابقا تلزيم عطاءات التعدين على شركتين اثنتين لا ثالث لهما وهما من يحدد سعر تعدين الطن المتري من الفوسفات وكانت الشركة تتكلف زيادة في السعر ما يقارب 40 بالمئة من سعر التعدين المبالغ فيه نتيجة الاحتكار من هاتين الشركتين وبلغت قيمة ما تقاضته هاتان الشركتان ما يقارب مليار و 700 مليون دينار خلال الفترة الممتدة من 2010 وحتى عام 2016 بمعنى ان هناك كلفة اضافية تحملتها الشركة بلغت حوالي 900 مليون في التعدين بسبب الحصرية خلال السنوات الست المشار اليها اعلاه وتم توفير هذا المبلغ بعد فتح باب التنافس امام كافة الشركات ما ادى الى انخفاض سعر تعدين الطن الواحد من 22 دينار الى ما يقارب 12 دينار لكل طن يتم تعدينه .
كانت الشركة تشكل مأوى للعاطلين عن العمل فهناك فئة من العمالة تتقاضى رواتب من الشركة وهي لا تصل مكان العمل ابدا الا لاستلام الراتب وتم الاستعاضة عن زيارة الشركة بعد انتشار الصراف الالي وكفى الله العاملين شر القتال او العمل ومن الغرائب ايضا وجود نوع من الاجازات غير معروف في اي مؤسسة وطنية اخرى وهي اجازة “الجلوة ” .
بدأت الخطة الاستراتيجية التي وضعها رئيس المجلس الذنيبات بالحد من النفقات التي لا مبرر لها واحالة كل من يرغب بترك الشركة للتقاعد وفق حوافز مالية مجزية للراغبين بذلك ما مكن الشركة من تقليص عدد العمالة الزائدة اساسا ووفر رواتب باهضة كانت تتكفلها الشركة دون ان يقابلها انتاجا متناسبا مع حجمها ثم بدأت الشركة بتطبيق استراتيجية التنوع في الانتاج التي رفعت المردود المالي والارباح الاجمالية عشرات الاضعاف ثم تم الدخول في شراكات جديدة مع شركات دولية لتصنيع المشتقات الفوسفاتية ذات القيمة المضافة العالية والسعر العالي ما مكن الشركة لاحقا من قيادة سعر مادة حامض الفوسفوريك عالميا وهو حامض يدخل في العديد من الصناعات ولعل احد مقاييس التطوروالنمو في الدول كان يقاس على حجم ما تستهلكه من هذه المادة كدليل على تقدم الدولة ونموها وتطورها .

نتيجة للخطة الاستراتيجية التي وضعها مجلس الادارة حصلت الشركة في العام 2024 على الميدالية الذهبية للتميز الصناعي من الاتحاد العالمي للاسمدة مثلما حصلت عام 2023 على جائزة التميز في الاعمال من الاتحاد العالمي للاعمال وجائزة افضل الممارسات لعام 2022 المقدمة من الجمعية الاوروبية لابحاث الجودة فيما تم ادراج الشركة ضمن قائمة اقوى 100 شركة في منطقة الشرق الاوسط في العام 2023 .
انني ارى من واجبي الاخلاقي على الاقل قبل الاكاديمي ان اوضح مثل هذه الحقائق للناس الذين تم استثارتهم اعلاميا ونيابيا ليقولوا ان هناك شبهة فساد في رواتب رئيس مجلس الادارة والادارة التنفيذية ولكن لم يتم استثارتهم عندما كان هناك فسادا بطوله وعرضه متربعا على نفَس شركة الفوسفات وادخلها في حالة اغماء وموت سريري …مشكلتنا الحقيقية اننا نفتي احيانا بغير علم ولا معرفة مؤمنين بسياسة القطيع المتمثلة بمقولة “ان انجنوا ربعك عقلك ما بنفعك ” …
حمانا الله واياكم من الجنون ومن سياسة القطيع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى