الشاشة الرئيسيةفكر وثقافة

بين الأرقين: أرق المتنبي وأرقي . … ثمة متسع للبوح

بقلم الصحفي الدكتور عبدالمهدي القطامين
ما بين الأرقين. .. أرق المتنبي وأرقي ثمة ما يتسع للبوح إلى حد عدم الإدارك أو العجز عن الإلمام بدلالات النص عند المتنبي كاملة في قصيدته الذائعة الصيت: أَرَقٌ عَلــــــى أَرَقٍ وَمِثلِيَ يَأرَقُ.
فعن أيّ أرق أنبش في جدران الذاكرة الموغلة في عشقها الأبدي للفروسية والبطولة؟ وعن أي أرق والمتنبي لم يترك لنا من بعد أرقه أرقا، وهو يستهلّ قصيدته الموجعة التي أوجعت نفسه الباحثة أبدا عن البطولة في عالم كاد أن يخونها، وفي عصر سمته الأولى الضياع إلى أبعد حد وكأن أبا محسّد يطلّ علينا من بيداء الموصل ليقول: أيّ خراب هذا الذي في خرائبه تعمهون وفي أطلاله تذوبون لا وجدا ولكن قهرا وحيرة ؟
ولنا أن نتخيّل بل أن نوغل في خيال غير ذي جدب، خيال يتّسع لرؤية أبي الطيب حين أصابه الأرق، أرق الشاعر المرهف الحس، العاشق الفارس الباحث في صحراء العرب عن بطولة طويت أجنحتها وغابت خلف أفق محتدم بالوجع، وجع الذات ووجع الجمع، وما بينهما يكمن الكثير من الرقة الممزوجة بوجع الأرق، فهو هنا ينسج مملكة شعره على حد الصحراء بحرها وقرها وليلها الطويل، حين يغادرها القمر فلا يؤنس وحدتها سوى صوت ذئب يجوح من بعيد يبحث عن فريسة مفترضة تسد جوعا وترد رمقا.
هو ليس أرقا واحدا لكنه أرق مركب؛ فهو تماما كبحر من الظلمات من فوقه ظلمات، وهو أرق مزجه أبو الطيب بكيمياء شاعر عاشق يذوب وجدا ويطوي جناح السرعة في صحراء ممتدّة لينال بعض ما توارى من غياب لحبيب ظل يعانده ويسري قمره شرقا فيما كل الجهات تظل مغلقة أمام رؤية من ينتظر الرؤية. … هذا الأرق المركّب لا يعرفه سوى أبي الطيب ولم يذق حرقته إلاه؛ فهو صانعه وبانيه وهو المكتوي بناره ثم إنه يواصل تأكيد حضوره الإنساني في أتون محرقة الأرق ليجزم: ومثلي يأرق، وهنا كعادته في الالتفات إلى ذاته الكبيرة وإلى أناه التي اشبعها مدحا قبل مدح ممدوحه في مواقع عدة من أشهر قصائده: أنا من يأرق ومثلي من يحس بالأرق وكأنه يقول إذا لم يحس أبو الطيب بالأرق فمن ذا إذن به يحس ؟
ومن يكون هذا المشتعل أرقا غير أبي الطيب نفسه، صاحب النفس المتوثبة الحائرة بين البطولة والتخاذل، تخاذل الآخرين وحسدهم وكيدهم والبطولة التي لم يجدها إلا عند معشوقه سيف الدولة الذي جعله مقصده ومبتغاه وخلد عصره إلى أن ياخذ الله الأرض ومن عليها.
وَجَوًى يَزيدُ وَعَبرَةٌ تَتَرَقرَقُ….
إذن هي ليست عبرة واحدة لكنها عبرات أطلق مفردها ليدل على جمعها وهي عبرة غريبة لا تهمي لتصبح دمعة ولا تؤوب إلى محجر العين فتظلّ حبيسة بين سوادها وبياضها متأرجحة تماما كما تتأرجح نفس شاعرنا بين الحسد والتفوق والنبوغ والبحث عن مفردة غابت في غيابة الجب هي مفردة الفروسية بكل معانيها، وقد انحسرت في زمن كانت الأنفس تشتاقها:
جَهدُ الصَــبابَةِ أَن تَكونَ كَما أُرى*** عَينٌ مُسَـــهَّدَةٌ وَقَلبٌ يَخفِقُ
هنا يعاين الشاعر العاشق صفات العاشق كما يراها هو بحسه لا كما يراها الآخرون بحسهم، وهنا ليس أدق من وصف هو سمة للواصف فالعاشق وحده من يدرك ويعي ويرسم مآلات العشق حين يتملك الوجدان لتبدو وتلوح على الجوارح علاماته ودلالاته؛ فهل غير هذا الوصف وصف يليق بعاشق مجنون متيم لم يزل هائما في يمّ عشقه؟ فهو أبدا لا يعرف التخوم: عين مسهّدة وقلب يخفق
عين لا تنام ولا تعرف للنوم طريقا، يحاصرها السهاد فلا تغفو ويؤازرها القلب الذي تتزايد خفقاته، فكل عشق لا يستجيب له القلب خفقا واضطرابا هو عشق منقوص في شريعة أبي الطيب
ما لاحَ بَرقٌ أَو تَـرَنَّمَ طــــائِرٌ **** إِلا اِنثَنَيتُ وَلي فُـؤادٌ شَيِّقُ
البرق هنا دليل الخصب والغيث والمطر، وهو وثيق الصلة بمواسم الخير التي تشهد هطول الودق لتحيا به الأرض بعد موتها، وهي حياة ترتبط بعد الجدب أيضا بترانيم الطيور على الأغصان، وفي هذه اللوحة التي رسمها أبو الطيب بدقة ثمة إثارة للحنين والشوق وللعشق كي لا تذوي جذوره وتموت في ذاته المتعبة العاشقة
جَرَّبـــتُ مِن نارِ الهَوى ما تَنطَفي*** نـارُ الغَضى وَتَكِلُّ عَمّا تُحرِقُ
بين نارين وقّادتين مشتعلتين يقف شاعرنا ليرسم مفارقته التي تحمل في طياتها المزيد من الإثارة إلى نار مجازية أشعلها الهوى والحبيب الغائب وأخرى حقيقية ذات لهب، ولعل أبناء الصحراء ومن عايشها يدركون أن شجر الغضى المنتشر في الصحراء ذو نار شديدة اللهب شديدة الحرارة يظل جمرها متقدا طويلا، فلا تذروه الريح ولا يخبو من العاصفة إن هبت عبوسا وحركت معها كثبان الرمال، لكن الشاعر هنا يبتعد عن كل ما تملكه نار الغضى من جبروت وقوة ليعلن أن نار الهوى أشد حرقا وإيلاما:
وَعَذَلتُ أَهلَ العِشــــقِ حَتّى ذُقتُهُ *** فَعَجِبتُ كَيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
ويمضي شاعرنا مراوحا بين الوجد والحكمة، ليعزف على أشد أوتار قلوبنا ألما وحيرة، فالعاشق لم يزل يسكن جسده الذي أتعبه الترحال ولم يزل يروي سيرة عشقه المخبأة في قلب نازف ويتساءل سؤاله الاستنكاري: كيف يموت من لا يعشق؟ ومن أين تأتي الجرأة الموت لكي يخطف روحا غير عاشقة ولم تحس يوما بعشق فكيف إذن تموت .
ويخلع أبو الطيب صفة العاشق المتوحد عن ذاته ليعلن فلسفته في الحياة ورؤيته لها مقتنعا أنها بجمالها وبهائها وسوادها إلى زوال:
أَبَني أَبينا نَــــــحنُ أَهلُ مَنازِلٍ**** أَبَــدًا غُرابُ البَينِ فيها يَنعَق
أيــنَ الأكاســرة الجبَــابِرَةُ الأُلـى ***.كَـنَزوا الكُنـوز فَمـا بَقيـن ولا بَقُـوا
مِـنْ كُـلّ مَـنْ ضـاقَ الفَضاءُ بجيشهِ***حــتى ثَــوى فَحـواه لَحْـدٌ ضَيـقُ
خُــرس إذا نُـودوا كـأًنْ لـم يَعْلَمـوا***أن الكَــلامَ لَهُــم حَــلالٌ مُطْلَــقُ
نَــبكي عَلى الدُنيا وَما مِن مَعشَرٍ*** جَمَعَتهُمُ الدُنيــــا فَلَم يَتَفَرَّقوا
وَالمَـــوتُ آتٍ وَالنُفوسُ نَفائِسٌ***وَالمُســـتَغِرُّ بِــما لَدَيهِ الأَحمَقُ

ويصل بنا الشاعر هنا ذروة حكمته ليفصح لنا عن فلسفته في الحياة والموت، لنتيقّن ايّ فيلسوف يسكن ذاك الجسد النحيل المتنقل بين الشام ومصر باحثا عن ظالته ليعود إلى حلب مثخنا بكلّ جراحه التي ما فتئت تصيب منه مقتلا؛ كيف لا وهو الذي أسمع شعره الاصمَّ وعرفته الخيل والليل والبيداء لكن ولاة الأمر لم يعرفوه.
هنا نحن أمام حقيقة مطلقة لا لبس فيها، حقيقة الموت التي هي نهاية كلّ حي غنيّا كان أم فقيرأ، كبيرا كان أم صغيرا، جبارا كان أم ضعيفا، الجميع هنا يتساوون في الحقيقة الأزلية: الموت، و جدليّة الموت التي أشغلت النفس البشرية، منذ جاء هذا الكائن البشري على هذه الأرض، ظلّت موضع سؤال الفلاسفة، ولأنّ أبا الطيب ليس شاعرا حسب، بل فيلسوف مسكون بوجع الخلود والنبوءة، كان هذا السؤال ملحاحا يطرقه في شعره في قصائد عديدة لكنه هنا ينهي كلّ تساؤلاته ليجزم أنّ الموت آت قدرا محتوما فما جدوى أن يستعزّ كلّ جبار وكلّ وال وكلّ حاكم بما لديه من النفائس التي ينتظرها المصير الأخير: ذهاب صاحبها إلى لحده الضيق فارغ اليدين. لكنّ الشاعر يستدرك هنا ليؤكد مرة أخرى أنّ الحياة شهية وهي مبتغى للنفس البشرية الباحثة عن الطمأنينه، النفس التي يراودها الأمل؛ لأنّ النفس البشرية دائما تبحث عن الأمل وتظل تبحث عن كينونته للخلاص من اليأس الذي يخيم عليها في مواقع النفس وخباياها الدفينة “جوات ” الضلوع.
ولقـد بَكَـيت عـلى الشـبابِ وَلِمّتـي ***.مُســوَدةٌ وَلمــاءِ وَجــهي رَونَـقُ
حَــذَرا عَليــهِ قَبــل يَـومِ فِراقِـهِ*** حَــتى لكـدت بمـاءِ جَـفني أشـرَقُ
أغلب الظنّ انّ أبا الطيب نسج قصيدته هذه في أواخر أيّامه قبل مقتله وقبل أن يقتله شعره، مستذكرا نزق الشباب ورونقه وبهائه ، وهو مفجوع بهاجس الرحيل القادم حين تبيض اللمّة بعد سوادها، وهو خائف متوجس على فراق الشباب بكلّ حيويته، هذا الخوف تجلى بالدمع الذي يهمي ولا يستقر إلا على فم الشاعر، ما جعله يشرق بالدمع كصيغة مبالغة على بكاء حادّ لا ينقطع، يقطع الأنفاس وتشرق به الأفواه، وعلى الرغم من أن بعض من شرح ديوان المتنبي قالوا إنه نسج هذه القصيدة وهو في أوج شبابه فإن النص ودلالاته أبعد من أن يطاله شاب صغير ناشئ، وما جاء من حكمة بارعة في نسج أبيات الحكمة يدل بلا جدال على أحد أمرين: أن المتنبي قالها في الأربعين التي هي سن الاكتمال، أو وهو على مشارف الخمسين، أو أنّ المتنبي امتلك ناصية الكلام ومغزاه صغيرا فخبزه وعجنه وقدمه للناس، وهذا دليل على عبقرية أبي الطيب وبراعته في عالم الشعر والفكر وقد تكون مثل هذه القدرة العجيبة على بناء الكلام وفلسفته أحد دواعي ادّعاء المتنبي للنبوة، إن صحّت مثل هذه الدعوة وصدق من قال بها عن المتنبي في صغره.
أَمّا بَنو أَوسِ بنِ مَعنِ بنِ الرِضا ** فَأَعَزُّ مَن تُــــحدى إِلَيهِ الأَينُقُ
كَــبَّرتُ حَولَ دِيارِهِم لَمّا بَدَت***مِنها الشُموسُ وَلَيسَ فيها المَشرِقُ
وَعَجِبتُ مِــن أَرضٍ سَحابُ أَكُفِّهِمْ** مِن فَوقِها وَصُخورُها لا تورِقُ
وَتَــفوحُ مِـن طيبِ الثَناءِ رَوائِحٌ**** لَــهُمُ بِكُلِّ مَكانَةٍ تُستَنشَقُ
ترى هل بنى المتبي مفاصل قصيدته الرائعة حد الإعجاز هذه ليصل إلى هذه النهاية ؟ وأين ذلك الأرق الراقي والسمو الروحاني في مطلع القصيدة لتنزلق القصيدة في مقطعها الأخير إلى المدح لمحسن مثل محمد بن أوس ابن معن بن الرضى؟ وهل يمكن أن يتناغم مقطعا القصيدة في النسيب والحكمة ليصلا إلى منزلق خطير مثل منزلق المدح لقوم لم يقل عنهم التاريخ الكثير؟ أم أن أبا الطيب أراد كعادته أن يصل إلى ممدوحه شريطة أن لا يتخلى عن روح الكبرياء المتوثبة في داخله؟ وهو ما ظهر جليا واضحا في البيت الثالث والعشرين من القصيدة إذ يقول:
يــا ذا الـذي يَهـبُ الكثـيرَ وَعِنـدَه….أَنـــي عَلَيــهِ بِــأخْذِهِ أَتصَــدَّقُ
هنا في هذا البيت يقلب أبو الطيب الآية، كعادته في قصائد مدحه، وعلى خلاف مع كثير من الشراح، فإنني أجد أنّ الشاعر يمدح نفسه أكثر من ممدوحه؛ فالممدوح يجود بجزيل ماله لكنه في قرارة نفسه يعرف أنّ تخليده بشعر أبي الطيب أعز كثيرا وأرفع مما يقدمه من مال؛ لذا فإنّه في قرارة نفسه أي الممدوح يعرف أنّ المتنبي يبدو في نظره هو المتصدّق وليس هو المانح؛ فشتان ما بين مانح المال ومانح الجاه والخلود، إذ لولا شعر أبي الطيب لم نسمع نحن في هذا العصر بمحمد بن معن، إذن لقد تصدّق الشاعر على الحاكم أو المانح بقبوله عطاياه وهي الرسالة التي كان أبو الطيب حريصا على إيصالها لممدوحيه حتى سيف الدولة الحمداني لم يسلم من هكذا رسائل ومثله كافور الاخشيدي في مصر، ولعل ابن معن هذا لم يشذ عن القاعدة التي رسمها أبو الطيب في شعره؛ فالاعتداد بالنفس وعلو الهمة ومدح ذاته هي حكاية اختص بها الشاعر نفسه وظل وفيا لها، ولعلها كانت السبب الرئيس في مقتله حين حاول الفرار من ثلاثين فارسا كان أرسلهم فاتك الأسدي خال ” ضبه ” وهو شخص كريه كان أبو الطيب قد أشبعه هجاء فناداه الخادم حين رآه يهم بالفرار قائلا: الست أنت القائل :
الخَيْل واللّيْلُ والبَيْداءُ تَعْرفُني … والسّيْفُ والرّمْحُ والقرْطَاسُ والقَلَمُ
فشد عنان فرسه ليعود للمواجهة الأخيرة في حياته بينما كان يردد في ذاته: لقد قتلتني يا فتى.. كان رحيله ومقتله مدوّيا مثلما كان شعره في بيداء وصحراء الرافدين وبلاد الشام ومصر.. وهكذا إنتهت رحلة أبي الطيب على هذه الارض التي استمرت ثلاثة وخمسين عاما لكنها كانت كفيلة بإدراج الشاعر في سجل الخالدين الذين ستظل سيرتهم على هذه الأرض ما دامت الأرض والسماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى