خسر العراق والامة العربية وكل القوميون العرب والمفكرين في ارجاء الوطن العربي شخصية وقامة شامخة لا تعوض الا وهو الاستاذ الدكتور خير الدين حسيب. لقد شغل الدكتور خير الدين في حياته الدنيا وكان مركزا لاهم النشاطات الفكرية والبحثية العربية لاكثر من اربعة عقود اشعل خلالها نهضة علمية كبيرة في داخل الامة. ويكفيه فخرا انه استطاع ان يؤسس صرحا علميا وبحثيا رصينا (مركز دراسات الوحدة العربية) نجح منذ عام 1975 في خدمة الفكر القومي العربي وقضايا الامة المصيرية، واصدار مجلة علمية شهرية رصينة (المستقبل العربي)، وعقد المؤتمرات التي جمعت المثقفين والباحثين العرب ومن كل المشارب في كل عاصمة من عواصم الوطن العربي، وحتى خارجه.
بالاضافة الى خصاله الفكرية وقدراته الادارية الفذة، تمتع الفقيد بوطنية نادرة جعلته يتسامى على كل ما لاقاه من سجن وتعذيب وتغريب لكي يرسم لنفسه طريقًا يتمكن من خلاله خدمة الامة ومشاريعها القومية ونهضتها. في احد احاديثي الكثيرة معه اخبرني بانه بعد ان سجن بعد عام 1968، وتعرض لتعذيب كبير وقاس واضطر الى مغادرة العراق بعد الافراج عنه، قال انه توجه الى بيروت حيث عرضت عليه منظمة الاسكوا التابعة للامم المتحدة وظيفة دولية محترمة فيها. ويقول انه بعد ان وطأت قدماه بيروت جلس لوحده وعمل تقييما شاملا لكل مسيرة حياته حتى تلك اللحظة. وبدلا من ان يقنع نفسه بان تتنازل في بعض الامور بعد المعاناة الطويلة والقاسية خلال محنة السجن، قرر ان يجعل هدفه الاول عدم المهادنة او التنازل عن المبادي وان لا تاخذه في الحق لومة لائم وان يتعامل مع الجميع، وحتى اقرب المقربين له، بمعيار واحد تحدده المصلحة العامة. وكانت نتيجة هذا القرار والاصرار عليه حتى النهاية مزدوجة. فمن ناحية كانت الصرامة والجدية التي اتصف بها سببا في ان تجعل العمل معه مهمة شاقة الا لمن يتصف بالجدية ويتفهم طبعه، ومن الناحية الثانية جعلته يبني صرحا فكريا كبيرا وناجحا، (مركز دراسات الوحدة العربية) الذي وصفه الراحل محمد حسنين هيكل بصدق بانه النقطة المضيئة الوحيدة في الامة العربية بعد نكسة حزيران/يونيو 1967. ولمن لا يعلم فانه في اشد مراحل الحرب الاهلية اللبنانية ضراوة في سبعينيات القرن الماضي اصر على اصدار مجلة المركز في وقت كانت فيه حملات الاغتيال مستمرة على قدم وساق والهاونات والقصف المستمر يطال كل اطراف بيروت. ولم تتوقف مجلة المركز شهرا واحدا عن الصدور، لا خلال هذه الحرب ولا ، وهذا الاهم، خلال الاجتياح الاسرائيلي البغيض عام 1982 والتصفيات التي قام بها جنود الاحتلال للمفكرين ومراكز البحوث.
ويكفيه فخرا انه كان العقل المدبر والمخطط والمنفذ لتشكيل منظمات وهيئات وجمعيات ومؤتمرات عربية جمعت ابناء الامة من الخليج العربي الى المحيط الاطلسي. فلقد كان وراء تاسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان والمنظمة العربية لمكافحة الفساد والمنظمة العربية للترجمة والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي-الاسلامي، والمشروع النهضوي العربي ومخيم الشباب العربي، الذي حرص ولا يزال، على جمع الفتيان العرب من كل الوطن العربي، والجمعيات العربية للاقتصاديين والعلوم السياسية والاجتماعيين والمؤسسة الثقافية العربية وغيرها كثير. ويكفيه فخرا ان احد مخططي السياسيات في اسرائيل، التي اعتبرها الفقيد العدو الاول للامة العربية ورتب كل نشاطاته وجهوده للتصدي لمخططاتها، اعترف ان خير الدين حسيب قد سبق اسرائيل في تنفيذ مشاريع ومؤتمرات كانت تريد هي ان تنفذها وتملأها بعملائها لكي يكونوا في خدمتها بصورة غير مباشرة.
في لقاء اخير لي معه في بيروت قبل ان تحل الجائحة وأُحرم من السفر والالتقاء به، واكتفي بالاحاديث التلفونية، جلست معه في شقته، وسط رفوف تغطي جدران غرفة الجلوس الواسعة والغرفة المجاورة من الشقة وصناديق من الكتب واصدارات المركز لم يكن قد تمكن من تنضيدها بعد، وكان حزينا مهموما لانه، حسب تعبيره (اضطر لمغادرة المركز والاستقالة من مجلس ادارته)، مع مرارة من تصرفات مقربين لم يكن يتوقعها، وكيف انه كان يشعر بالاحباط بعد الذي قام به. ابتسمت بوجهه في تلك اللحظة وقلت له كيف لك ان تقول ذلك. يكفي ان تجلس في محلك وتجول بنظرك حول الغرفة التي نجلس فيها والغرفة المجاورة والصناديق التي تحيط بك من كل جانب والمليئة بكتب ومجلات واصدارات المركز على مدى اكثر من اربعين عاما، وهي كلها شاهد على نجاحك وانجازاتك العظيمة خلال هذه المدة. وان كل هذه الاعمال التي تحمل اسمك اما كرئيس للمركز او محرر او مؤلف هي التي ستخلدك مدى الدهر، والتي يجب ان تجعلك تفخر بانجازاتك.
لقد تمتع الدكتور خيري بروح وطنية نادرة، واذكر انه عندما بدات طبول الحرب تدق حول العراق بعد اجتياح الكويت، واحتاجت قيادة العراق انذاك ان تحصل على دعمه ومن وراءه الشخصيات القومية في العراق وحول العالم، وجهت له دعوى للحضور الى بغداد، لم يتردد لحظة واحدة في تلبيتها، على الرغم من تجربته القاسية مع النظام في بداية وصوله للسلطة، وبعد اجتماعات مطولة له مع اهم قيادات العراق انذاك والتي تحدث فيها معهم بصراحة كبيرة، طلب من الاخ المرحوم الدكتور وميض نظمي ان يرتب له لقاءا مع الوجوه القومية في العراق. وبالفعل دعانا وميض لهكذا لقاء في داره. وبعد ان جلسنا بدا يتحدث عن ضرورة دعم العراق والقيادة فيه والتغاضي عن الخلافات لمواجهة مؤامرة كبيرة تستهدف البلد، وطلب منا ان نتعاون مع النظام. واذكر ان احد الاخوان قال له متهكما (ان من ياكل العصي ليس كمن يعدها)، فرد عليه الدكتور خيري بكل هدوء، (هل تريد ان اشرح لك كيف تكون وطأة العصي على الجسم وهل تريد ان اريك بقايا اثارها؟ انا من اكلها وليس من عدها). وتدخلت انا في حينها وقلت له يا دكتورنا العزيز نحن لسنا ضد الوقوف مع البلد في هذه المحنة، ولكن المشكلة ان النظام لا يستطيع ان يتحمل اية وجهة نظر مختلفة، ومع ذلك فاننا منذ اللحظة الاولى وضعنا مصلحة البلد فوق كل اعتبار. وكرر الدكتور خيري جهوده في هذا المجال في الساحة العربية والدولية. وعندما فرض الحصار على العراق، وعلى الرغم من الضائقة المالية التي كان المركز يمر بها، قام بتقديم كل اصدارات المركز هدية للجامعات العراقية مجانا مع اشتراكات مجانية لكل اصداراته.
وعندما وقع الاحتلال انتفض انتفاضة كبيرة وسخر كل جهود مركز دراسات الوحدة العربية للقيام بنشاطات وندوات في كل المجالات لوضع الافكار والبرامج لتجاوز الاحتلال وتبعاته الكارثية، ودعم المقاومة واستمرارها، الامر الذي جعل بعض ضعاف النفوس يتهمه بانه كان يبحث عن مركز قيادي في العراق، وهو الذي كان ابعد ما يكون عن ذلك. وحدها الاطراف الدولية التي كانت قد خططت ونفذت جريمة الاحتلال شعرت بخطورة دوره ودور مركز دراسات الوحدة العربية، ولهذا اتخذت قرارا بمحاصرة المركز والتعتيم على نشاطه وتجفيف كل مصادر الدعم المالية التي كانت الشريان الحيوي لادامة نشاطاته. ومنعت كل المراكز الاكاديمية والجامعات من شراء اصدارات المركز، ومنعت الصحف من نشر اي خبر عن هذه الاصدارات او الترويج لها. ودخل المركز في ضائقة مالية شديدة جعلت البعض يقول ان وجود الدكتور خير الدين على راس المركز هو السبب في تلك الضائقة، مما اضطره الى الاستقالة خدمة لمصلحة استمرارية المركز.
اما مواقفه الانسانية مع كل من كان يحتاج العون او يمر بضائقة او محنة (مادية او صحية) فانها لا تعد ولاتحصى، واترك ذلك لمن شملته هذه المواقف ان يكتب عنها.
اصر الدكتور خيري على الاحتفاظ بجواز سفره العراقي ولم يطلب اية جنسية اخرى، ولما رفضت حكومات ما بعد الاحتلال تجديد جواز سفره، بادرت لبنان والجزائر واليمن الى عرض جواز سفر عليه.
ولد الدكتور خير الدين حسيب في مدينة الموصل العراقية عام 1929، ودرس فيها دراسته الابتدائية، وبعد ان انهى دراسته الجامعية في بغداد منح بعثة لدراسة الاقتصاد والاحصاء في انكلترا حيث حصل على الماجستير من جامعة كامبرديج والدكتوراة من جامعة لندن عام 1957. عاد الى العراق بعدها وعمل في مجالات متعددة، منها التدريس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث التقيته لاول مرة، حتى وصل الى منصب محافظ البنك المركزي العراقي ثم رئيسا للمؤسسة الاقتصادية (برتبة وزير)، التي اشرفت على كل الانشطة الاقتصادية في العراق. وتمكن من خلال هذا المنصب ان يعلن قراراته الاشتراكية التي نتج عنها تاميم المشاريع الصناعية الخاصة والبنوك، هذه القرارات التي سببت له الكثير من الانتقادات. الا انه ظل حتى اواخر ايام حياته يدافع عنها ويفخر ان نتيجة لقراراته قامت الموسسات المؤممة بتوزيع الارباح على العمال لاول مرة في تاريخ العراق.
ان القلم ليعجز عن ذكر ما حققه هذا الرجل الكبير خلال حياته. وان العين لتدمع والقلب ليجزع لفقدان اخ كبير وصديق صدوق عزيز ومعلم قدير واداري فذ، والاهم شخصية قومية وطنية نادرة من الصعب ان تتكرر في هذا الزمن الرديء. رحم الله ابو طارق وغفر له وجعل مثواه الجنة، والهم عائلته وابناءه ومحبيه الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون.