ذكريات و عِظات -10- محمد الداوودية

رحل يوم أمس الأول عمر باشا العمد، لواء المخابرات العامة، الذي سيظل نموذجا على ابناء الوطن الذين يحمونه بصلابة ويعاملون ابناءه باحترام وكرامة.
حقق معي عدد من ضباط المخابرات العامة في السبعينات والثمانينات فوجدتهم رجالا وطنيين كراما. لم اتعرض لما يسمى “اساءة استخدام السلطة” التي تغري بالبطش والعنف.
واشهد انهم لم يكونوا منفرين، رغم انني حصلت على عدة عقوبات: المنع من الكتابة. المنع من السفر منذ عام 1974 حتى عام 1989 باستثناء اربع سفرات: الاولى الى اليمن الديمقراطي عام 1979 بوساطة من الحاج جمعة حماد. والثانية الى الاتحاد السوفياتي عام 1981 بواسطة من محمود الكايد. والثالثة الى بلغاريا عام 1984 بوساطة من نصوح المجالي. والرابعة الى كينيا عام 1988 بوساطة من عصام عريضة.
والفصل من العمل والموافقة على عودتي اليه بتدخل من مريود التل وطارق مصاروة.
عندما حقق معي عمر باشا العمد في منتصف الثمانينيات، لاحظت ان في مكتبِه مكتبَةً تضم كلاسيكيات الفكر والسياسة والأدب اليساري العالمي.
وبامانة فقد وجدته نموذجا في الخلق والمهنية والديالكتيك.
وكما انني لا اعمم تجربتي الكريمة مع المخابرات التي لم تشُبها اهانات، ولم تجعلني حاقدا، فان تلك المعاملة لم تكن خاصة بي !!
ولا شك بوقوع انتهاكات يعرفها الرأى العام والقوى السياسية الاردنية، منها ما تعرض له الدكتور يعقوب زيادين على يد احد مدراء المخابرات !!.
بالمناسبة فقد قال لي الرجل الخلوق المهذب احمد باشا حسني مدير المخابرات العامة، أن عمر باشا العمد كان معلمه.
كتبت عن عمر العمد مقالة في “الدستور” بعد زوال الاحكام العرفية وإلغاء قانونها فتم توزيع المقالة على كل ابناء الجهاز كما ابلغني مدير المخابرات العامة انذاك سميح باشا البطيخي الذي قال لي: “رفعت المقالة الروح المعنوية للشباب”.
وقد كتبت في تلك المقالة انه لولا اشتعال رأسي شيبا لقدمت طلبا للعمل في المخابرات.
وقد ظلت تلك المقالة على موقع دائرة المخابرات العامة ردحا طويلا من الزمن وللأسف انني لا احتفظ بمقالاتي.
******
الاستشهاد بتجربتنا السياسية لا تعني فرارا من الواقع، ولا انحيازا الى الماضي.
منذ زمن ليس بعيدا، كانت على ألسِنة المواطنين وملء افواههم، مصطلحات انقرضت ولم يعد لها مكافئ موضوعي اليوم !
كان «النظام» يُفرِّخ «زلم» ورجالات وقيادات و”دواسين ظلما” يفتدون الوطن والعرش بارواحهم، كانوا مؤمنين بالوطن، وكانت العِفّة هي عقيدتهم الاقتصادية والسياسية، وكانوا يعتبرون الفاسدين «جرذانا».
وايضا كانت المعارضة تلد «طيور شلوا» و «زلم» ومناضلين وقرامي وفرسانا، يفتدون الوطن بأعمارهم، يدخلون السجون وهم يطلقون عقائرهم بالحداء للوطن والفقراء والعمال والحريات العامة وسقوط الاستعمار: يعقوب زيادين وعبدالرحمن شقير وشاهر أبو شحوت وحمدي مطر وعبدالله الريماوي وسالم النحاس وضافي الجمعاني وحاكم الفايز وعوني فاخر.
كان التكافؤ متحققا بكثرة وبوفرة، وكان النظام يتوكأ على أطواد ودعامات و رواسي لم يكن جمع المال من انشغالاتهم واهتماماتهم، ولم تكن القصور ولا اليخوت ولا الطائرات الخاصة، تسترعي انتباههم او تحظى بنظرة تحسّر من سرائرهم النبيلة.
ايام زمان كانت المعارضة تستخدم لقبا فخما مستحقا هو «رجال النظام» تطلقه على الرؤساء والوزراء والمدراء والقيادات الأمنية. كانوا مسيسين وقراء. عند كل واحد منهم في منزله ما يفتخر به: مكتبة قياس 200 بوصة.
وايام زمان اصبح فلاح المدادحة – ابو ندهتين- وزيرا للداخلية، ولم يفعل شيئا لـ «تحسين اوضاعه» سوى انه باع املاك والده ليتمكن من الإنفاق على مقتضيات المنصب. ولهذا رحل ولم يترك خلفه بيتا، ولا يختا، ولا مزرعة. ولا مصنعا، ولا شركة، ولا رصيدا.
والصحيح ان فلاح المدادحة لم يكن باستطاعته ان يكون فاسدا، ولا مرتشيا !!
فالفساد قلة شرف وطبع وموهبة وتربية و”طولة يد” و خِسّة. ويد فلاح المدادحة كانت قصيرة جدا، الا على اعداء الأردن.
ولم تكن المعارضة في نظره عدوا.
وهل فعل الشهيدُ وصفي التل، الذي دانت له القلوب والسواعد والإدارة والأراضي والجمارك والمالية، غير انه رحل مدينا ؟!
وصفي التل وهزاع المجالي وفلاح المدادحة ومحمد عودة القرعان وعبد خلف داودية وحكمت الساكت، هم مقطع عرضي لـ «رجال النظام» ! مكَّنهم النظامُ فمكّنوه.
مكّنهم من القيادة فمكّنوا اركانه ووطّدوها.
كان المسؤول «يقظب شاربه» دلالة على الإلتزام الكامل والقدرة على التنفيذ والوفاء، وكان يراهن بقص نصف شاربه ان هو أخفق. وكان الرجال يهددون خصومهم قائلين: بقص شاربك. و كل شارب له مقص.
لقد رأينا بأم اعيننا قصورا بناها «عيال النظام» المحدثون، ليس لها مثيل، لا في سويسرا ولا في باريس، ورأينا كيف ان يخوت المباهاة والفشخرة والمنفخة في العقبة لا يرفع عنها الغطاء لمدة تزيد على 6 شهور !! ورأينا فللا في العقبة أيضا، لم يدخلها مالكوها منذ سنة.
******
انتجت بلادنا الاردنية رجالا مقدودين من الصخر والكرامة. سواء من رجالات النظام او من رجالات المعارضة.
انتجت رجالا منتمين الى الأمة بكل جوارحهم، حتى انه كان يؤخذ على رجالات الوطن اعلاء الشأن القومي على الشأن الوطني. واعلاء البرنامج القومي والفلسطيني على البرنامج الوطني.
حتى وصل الحال الى اتهام الحركة الوطنية الاردنية، جراء ذلك بالتذيل !!
لقد ذابت الحركة الوطنية الأردنية في فصائل وأطر العمل القومي. في “جبهة التحرير العربية” لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي- فرع العراق. وفي “قوات الصاعقة” لصاحبها حزب البعث العربي الاشتراكي – فرع سوريا.
وظل الشيوعيون الأردنيون الأقل انسياحا وذوبانا. والاوضح انحيازا للبرنامج الاردني. ولما لم يسلموا من العصف الذي كان يرفع شعار البندقية والكفاح المسلح لا النضال السياسي التراكمي، وانتقٍدوا لعدم الانخراط في ظاهرة العمل الميليشياوي المسلح، شكلوا ميليشيا الأنصار. واظنهم شكلوها مسايرة ومجاراة لموضة تلك الايام !
وفي كل الظروف والأحوال كان الأردنيون قادة واندادا ذوي حضور بارز ملموس في ميادين العمل القومي، مفكرين وعسكريين واستراتيجيين.
وكان الملك الحسين النموذج الأبرز في الندية والاستقلالية، وكان ذا راي ورؤية.
كان ندا لجمال عبد الناصر.
وندا لحافظ الاسد.
وندا لصدام حسين
وندا لأنور لسادات
وندا لمعمر القذافي.
كما كان ندا لزعماء العالم الكبار.
ولا اقصد بكلمة الندية هنا، الخصومة.
وكانوا اندادا ومستقلين، رعيل الاردنيين المؤسس الذي ضم الشخصيات السياسية الأردنية في عهد الملك الحسين، مرحلة بناء المملكة وتوطيد اركانها:
منيف الرزاز ووصفي التل وسليمان النابلسي وطاهر المصري وشفيق ارشيدات وشاهر أبو شحوت ومحمود المعايطة وحمد الفرحان ويعقوب زيادين ومحمد الحباشنة ونايف حواتمة وهاني الخصاونة وجمال الشاعر وضافي الجمعاني وحسين مجلي وعدنان ابو عودة وليث الشبيلات وحاكم الفايز وممدوح العبادي ومئات الشخصيات الأردنية التي لمعت في سماء امتهم العربية.
*****
لعل احدى خصائص الحياة السياسية الاردنية الراهنة، او فلنقل علامات تشوهها، هو بروز ظاهرة المغالاةُ في الموالاة والمغالاةُ في المعارضة !
عندنا مشكلةٌ حقيقية، تضرب مخرجات الحوار الوطني بانتظام، اسمها المغالاة ! مغالاةٌ في الموالاة. ومغالاة في المعارضة !!
فأيّ نقد لأداء النظام السياسي والحكومة والمؤسسات، يقابَل بهبةٍ ممن يعتقدون ان النظام والحكومة فوق النقد !! فيتهمون المنتقدين بأنهم حاقدون مشبوهون مندسون.
وأي اطراء واشادة بأداء النظام السياسي والحكومة ومؤسسات الدولة، يُقابَل اصحابُها بسيلٍ من الأحكام النمطية الجاهزة: شبيحة، منتفعون كُتاب التدخل السريع …
إن كل اشكال المغالاة والتهويل والتقليل، هي تعصب وضيق افق و فقر سياسي وهشاشة معرفية.
ونتيجه كل ذلك الحاق افدح الاضرار بالإصلاح والتنمية والتقدم.
ويُلاحظُ كل ذي عينين، أن موجة الإدراجات والكتابات وأشرطة الفيديو المتكاثرة ومعظم الندوات، تركز بقصد وبلا عفوية، على السلبيات فقط، التي أَعترفُ انها موجودة وكثيرة وتحتاج الى نقد وكشف وفضح حتى.
ونلاحظ أن المحتوى الذي يتسيّد ما نقرأ ونسمع ونشاهد، هو التبخيس والتخسيس والتشكيك والتفكيك والإنتقاص من الإيجابيات والإنجازات والمبادرات، التي أَعترفُ انها كثيرة ووفيرة. ويحتاج منجزوها الى التقدير والثناء والمكافأة.
ونعلم ان أحد عوامل رفع “دوز” النقد، هو لحصد الشعبوية ولتحقيق “أشياء اخرى”.
ويلاحظ الناس ان إشاعة روح الإحباط والقنوط، والهدم واللطم، والسواد والحِداد، تجري بشكل مركز بهدف نزع ثقة المواطن بوطنه.
و مِن الغفلة ان لا نشك في الدوافع والروافع !!
إنه مخطط طويل المدى لإظهار اننا دولة هشة ضعيفة تعجز عن التصدي لأية مشكلات.
فليعلم من لا يعلم، ان بلادنا صلبة قوية قادرة، لا تتوقف عن التجدد والتكيف والحركة، كراكب الدراجة الهوائية الذي ان توقف وقع.
هذه البلاد تطبق قاعدة “إن أسوأ حل، هو افضل من عدم القدرة على الحل”.
ويطمئننا ان “قوات النخبة” المثقفة الأردنية، والقوة الإعلامية الأردنية الناعمة، التي تتوزع على الصحافة والإعلام والثقافة، ليست أكياسَ تدريب ولا نشافاتٍ، تأخذ ما يقذف عليها باعتباره الحقيقة المؤكدة !
ومبكرا قيل:
“ما زادَ على حدّه،
انقلب إلى ضدّه”.