جناة تائبون يعانون صدمة الإفراج

في عالم الجريمة تتباين الآراء حول قابلية الجاني لتكرار جريمته، والدوافع الكامنة وراء هذه القابلية، ففي حين ترجح آراء مثل هذا التكرار، يرى قسم آخر أن البيئة المحيطة بالجاني تتحمل القسط الأكبر في عودته لتكرار هذا الفعل، خصوصًا وأن ثمة دراسات تؤكد أن نحو 50 % من مكرري الجرائم ينحون باللائمة على حجب فرص العمل عنهم، فضلًا عما يواجهونه من نبذ مجتمعي.
وانطلاقاً من هذا الجدل، ارتأت “الغد” محاورة عينة من الجناة لمعرفة دوافعهم ومدى استعدادهم لسلوك الطريق القويم، والإحجام تاليا عن معاودة الدخول ثانية إلى هذا العالم المظلم، مثلما ارتأت محاورة خبراء في عالم الجريمة لتفسير أسباب العودة.
كان اللقاء الأول مع أحد الجناة السابقين، الأربعيني أدهم (اسم مستعار)، وهو من ذوي الأسبقيات، والذي يقرّ بأنه “واجه صعوبة بالغة حتى تمكن من التوبة والتوقف عن ارتكاب الجرائم بعد إقامته شبه المتواصلة داخل مراكز الإصلاح والتأهيل إلى حين تحقيقه الاندماج المجتمعي والتخلص من وصمة العار التي تلاحق ذوي الأسبقيات بعد انتهاء محكوميتهم”.
وفي النهاية، تمكن أدهم من اجتناب السلوك الجرمي والاندماج في المجتمع بحسب قوله، مشيرا الى أن “آخر جريمة ارتكبها كانت قبل 5 سنوات، وتتمثل بتحطيم واجهة احد المحال التجارية، لرفض صاحبه دفع أتاوة له”.
ووفق أدهم، كان واقعه المعيشي “مريرا، والبيئة المحيطة التي نشأ فيها في أحد احياء عمان، بيئة جرمية”، فلم يجد أمامه خيارا غير أن يكون “جزءا من هذه البيئة”، لكن زواجه كان المحطة الأهم التي غيرت مسار حياته، ليقرر بعدها أن يعيش واقعا مغايرا ويستقيم في سلوكياته، ويحاول إيجاد فرصة عمل.
وأضاف أنه بعد زواجه، اختار الرحيل عن المنطقة التي يسكنها الى منطقة أخرى، حتى لا ينشأ اطفاله في بيئة تشهد مشاكل وجرائم كثيرة، حيث رزقه الله لاحقا بطفل وطفلة، وتمكن بعد عناء طويل أن يجد فرصة عمل مناسبة تدر عليه دخلا يعيل به أسرته.
ويؤكد أن إيجاد فرصة عمل كان التحدي الاكبر له، لأن “غالبية اصحاب العمل يطلبون شهادة عدم محكومية وهو ما يتعذر عليه توفيره”، مستدركا أنه الآن يعمل مشرف حركة في إحدى الشركات، بعد أن استطاع بصعوبة بالغة إثبات حسن نيته، وأنه قوّم سلوكه وابتعد تماما عن البيئة الجرمية، ومشيرا الى ان عددا من الأشخاص ساعدوه في إيجاد فرصة العمل هذه وكفالته لدى صاحب الشركة.
وينصح أدهم كل من ارتكب جريمة او اكثر أن “يعيد النظر في حياته بأكملها، ويحاول الخروج من بيئة الجرائم المحيطة به، بلا يأس، لأن الاستمرار بالسلوك الجرمي سيؤدي الى دمار الشخص وحياته بأكملها، لكن التوبة وتقويم السلوك سيجعلانه مع الوقت انسانا منتجا وفاعلا ومحبوبا في بيئته ومحيطه، والأهم لدى اسرته”.
ويشاطره الرأي الثلاثيني خالد (اسم مستعار)، من أصحاب الأسبقيات أيضا، الذي يقول إن “عدم المحكومية والنبذ الاجتماعي اللذين واجههما من المحيطين به، شكلتا عقبات أمام تأخره في إعلان التوبة”، موضحا أن “ذوي الأسبقيات عادة ما يؤثرون ببعهضهم، وأن الرفض المجتمعي لقبولهم يضعف فرصة دمجهم اجتماعيا”.
ويبين خالد أن “تجنب ارتكاب الجريمة ونظرة المجتمع يحتاجان الى قرار وعزيمة لتغييرهما، إضافة الى مساعدة المقربين منه”، مشيرا الى أنه قرر الابتعاد عن سائر أصدقائه من ذوي الأسبقيات، والالتزام بأداء الصلاة، الى أن عمل مراسلا في احدى الشركات، ونظرا لأمانته وإخلاصه بالعمل قام مدير الشركة بترقيته ليعمل في مكتب الاستقبال ومن ثم مراقبا اداريا، ويتقاضى حاليا راتبا يصل الى 600 دينار.
ويضيف أنه أمضى حتى اليوم نحو ثلاث سنوات دون أن يرتكب أي جريمة أو مخالفة، موضحا أنه خسر اكثر من 15 عاما من حياته في السجون، الامر الذي شكل إساءة لنفسه وعائلته.
وينصح خالد كل من يرغب من ذوي الأسبقيات أن يصبح مواطنا صالحا، بتغيير بيئته الجرمية، واستبدال رقم هاتفه، ووقف سائر أشكال العلاقة مع أصدقائه الذين ينتمون إلى هذا العالم.
إلى ذلك، تعدد دراسة لوزارة العدل 20 سببا تدفع لمعاودة السلوك الجرمي من بينها: غياب فرص العمل بنسبة 4ر50 بالمائة، وتوفر العيش للنزيل من دون مقابل (4ر3 بالمائة)، واستمرار علاقة النزيل مع زملائه خارج مركز الإصلاح (4ر36 بالمائة)، ونبذ المجتمع للنزيل (3ر46 بالمائة).
ومن بين الأسباب الأخرى الواردة في الدراسة، قال نزلاء إن من أهمها “عدم وجود فرص عمل لهم، واستمرار علاقتهم برفقاء السوء خارج مراكز الإصلاح والتأهيل، وعدم تقبل المجتمع لهم، والنظرة السلبية حيالهم بعد خروجهم، وغياب الرادع المجتمعي والوازع الديني”.
ويدعو مختصون الى ضرورة التعامل مع جميع العوامل التي تدفع مرتكبي الجرائم لتكرار جرائمهم، بما يضمن عدم عودتهم اليها بعد خروجهم من مراكز الاصلاح، ومن بين هؤلاء أستاذ علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي، الذي يرى أن “سبب تكرار مرتكب الجرائم لجرائمه هو رفاق السوء، الذين يجرونه إلى طريق الظلام، وخاصة في حال كان من مدمني المشروبات الروحية، أو المخدرات”.
ويرى الخزاعي أن من “أهم الأسباب لتفشي ظاهرة العودة إلى الجريمة، تراجع المجرم عن الإقرار بجريمته أمام القضاء، بهدف إسقاط العقوبة أو تخفيفها، والبت في هذا الأمر يعود إلى القاضي، الذي ربما يقبل التراجع من دون ضوابط، فضلا عن أن المجرم غالبا ما يتأثر بتوجيه السجناء له، بحثه على اتباع الحيل للبُعد عن العقوبة، ومنها رجوعه عن إقراره”.
من جانبه، يعتقد أستاذ علم الاجتماع والجريمة الدكتور حسين محادين، أن “ضعف العقوبة قد يكون مؤشرا قويا لتكرار الجريمة؛ لغياب الردع والزجر؛ ولذلك يجب أن تكون العقوبة قوية بقدر ما يحقق هذين الأمرين ويمنع العودة إلى الجريمة”.
ويؤكد محادين أن “قبول رجوع المجرم عن إقراره بارتكاب الجريمة من دون ضوابط، وقبل تنفيذ العقوبة، يمثل مكافأة للمجرم تدفعه لمعاودة جريمته مرات عدة، ولهذا لا بد من تقييد هذا القبول بضوابط تنتفي معها سائر الحيل للإفلات من العقوبة، وحصر الرجوع في دائرة ضيقة جداً، ولأسباب مقبولة شرعًا ومتناسبة مع تحقيق الغرض من العقوبة”.
كما يطالب الحكومة بتوفير فرص عمل لمساعدة المذنب على تجنب معاودة جرائمه، مع مراقبته بعد خروجه من السجن لفترة يتم تحديدها.
وكانت وزارة العدل وضعت، بالاشتراك مع عدة جهات رسمية، وخبراء متخصصين، ومنظمات دولية، استراتيجية شاملة لمواجهة الجريمة والعودة إليها في المملكة، بعد إجراء دراسة علمية محكَّمة لها، بيد أنه تواجه هذه الاستراتيجية 23 تحديا، أبرزها يتعلق بكيفية تعزيز القيم المجتمعية والتسوية الإيجابية لفض النزاعات، وصياغة استراتيجية شاملة لمواجهة الجريمة والعودة إليها، وتحسين أداء مؤسسات الأمن والشرطة ومؤسسات إنفاذ القانون، والاكتظاظ في مراكز الإصلاح وعدم ملاءمة بيئتها الصحية والنفسية للنزلاء.
وتضمنت التحديات ما يتعلق بتوفير برامج للتوعية المجتمعية، لا سيما للشباب البالغين وغيرهم، ومكافحة الاشكال المستجدة للجريمة، وتشخيص الأنماط الجديدة من الجرائم، ورصد التطورات التي تساعد على ارتكاب الجريمة.
وشملت الاستراتيجية الموجهة أربعة اتجاهات: الحد من الجريمة، واتخاذ التدابير الوقائية لمواجهتها، وتعزيز الشراكة والتعاون مع المؤسسات الرسمية وغيرها من منظمات المجتمع المدني في التصدي للجريمة، وتطوير وتحديث التشريعات لنظام العدالة الجنائية، فضلا عن تعزيز وتحسين النظم المعلوماتية والإحصائية والدراسات العلمية المتعلقة بالجريمة، وتعزيز وتطوير آليات إدماج الجناة في المجتمع، كما احتوت على إطار عام لخطة عمل متكاملة شملت الاعمال التفصيلية للاتجاهات الاربعة التي تم وضعها لمواجهة الجريمة والعودة اليها.
وتم بناء الاستراتيجية بعد اجراء الوزارة دراسة تحليلية احصائية واستطلاعية شاملة بعنوان “الجريمة والعود الجرمي واستراتيجية المواجهة في المجتمع الاردني”، والتي أعدتها لجنة وطنية برئاسة أمين عام وزارة العدل وعضوية موظفين في الوزارة والمجلس القضائي، ومديرية الأمن العام ومشروع سيادة القانون الممول من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، والمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، إضافة إلى خبراء متخصصين في الجريمة ووزارة التنمية الاجتماعية.
الغد