فكر وثقافة

نزار حسين راشد: رواية قطار الليل إلى لشبونة: سحر التفاصيل.. نقد ادبي

نزار حسين راشد
هي رواية كتبها الكاتب السويسري بيتر بيري باسمه المستعار باسكال ميرسييه، وبالرغم من البساطة الظاهرة التي تعتمد سرد التفاصيل بكل واقعيتها الزمانية والمكانية، إلا أن القضية التي تطرحها من خلف ذلك الستار الشفاف، هي قضية المثقف الاوروبي الذي يبحث عن موقف لقدميه وراحة لضميره، وهذه إشكالية قابلة للحل آنيّاً و على أرضها، دون إبطاء وفي حرارة اللحظة!
أما حين يفشل المثقف في اتخاذ موقف، ويسقط ضحية لأرق الضمير، وتمضي السنوات، ويغرق المثقف في تفاصيل الحياة وتدور به عجلة معاشها، ويبقى سؤال الموقف معلقاً دون حل في أحد زوايا ذاكرته، ثم يستعاد التاريخ في ذهنه في لحظة كشف تتهيأ صدفة أو تهيؤها له يد القدر، يشرع المثقف في تقليب دفاتره بأثر رجعي، ليريح ضميره المثقل ربما، ويعفي نفسه من هذا الإرث الذي زرع دبابيس الشك في فراش راحته، فالثقافة هي أداة الوعي ورافعته والوعي مسؤولية لا يمكن تنحيتها بسهوله، ولكن حين يعبر قطار اللحظة ويقبع المثقف على الرصيف متفرجاً، فإنه حتماً سيشعر بالخيانة، والخيانة لذاته بالدرجة الأولى، وهذه أقسى أنواع الخيانة وأكثرها إيلاماً.
وربما هذا ما شعر به “ريموند غريغوريس، أستاذ تاريخ اللسانيات السويسري، وهو يهرع لإنقاذ فتاة من الإنتحار، وربما كانت مجرد استجابة إنسانية، او ربما تكفيراً عن تلك الخطيئة المزمنة التي دفنت في أعماقه طويلاً!

ليلتقط كتاباً نسيته الفتاة بعد أن نجح في إنقاذها، ويشرع في قراءته ليكتشف أنه ركب قطار الزمن، ليعود به إلى لحظة الأزمة تلك، حين أخفق في تحديد موقفه الفكري من كل قضايا أوروبا ما بعد الحرب ، من الفاشية إلى الإشتراكية، ليس من الديكتاتورية الفاشية في البرتغال بزعامة “سالازار” والتي لم يعايشها ولكن ربما من كل شيء بحكم حيادية بلده والتي انسحبت على حياته الشخصية لتفرغها من الحماس والاندفاع والانحياز والذي يحفظ لهيب الحياة حياً، وخاصة في صدر مدرس مثقف ، ليس ذلك فقط فالفتاة هي حفيدة منديز رئيس بوليس سالازار السري، والكتاب يروي تاريخ حقبة نضالية ضد حكم سالازار، ويسمي أبطالها بالأسم، وهو يحكي تفاصيل حيواتهم، ويرسم خطوط مصائرهم ما بين البداية والنهاية، لا بل إنه يخوض في علاقاتهم العاطفية، صداقاتهم وخصوماتهم، وولاءاتهم وغيرتهم، إخلاصهم وتحاسدهم.
أبرز هؤلاء الأبطال هو الطبيب أمادو، المنخرط بتفانٍ في هذه الخلية النضالية والذي يجد نفسه قبل هذا الإنخراط الفعلي، فجأة مشطوراً إلى نصفين بين واجبه كمواطن متعاطف مع موقف الجماهير ضد الديكتاتورية وواجبه كطبيب، حين أطلق الثوار الرصاص على مينديز رئيس البوليس السري، ويعثر عليه الطبيب أمادو ويقرر أن ينقذ حياته ويقوم بذلك بالفعل بمساعدة أخته العزباء التي تقيم معه في الفيلا الفاخرة، فهو ابن لقاض كبير تربطه بمينديز علاقة صداقة فهما يعملان معاً في حكومة سالازار.
وهنا يجد ريموند نفسه أمام لحظة كشف، فالطبيب أمادو اتخذ موقفاً اعتبره الناس خيانة كفر عنها بانضمامه لخلية النضال ضد حكم سالازار، وهنا يستقل ريموند القطار إلى ليشبونة مستخدماً التذكرة التي وجدها في جيب معطف الفتاة البرتغالية التي أنقذ حياتها، ليتتبع خيط الأحداث من أوله من خلال أخت الطبيب أمادو التي اهتدى إليها من خلال بحثه عن عنوان مؤلف الكتاب والذي هو أمادو نفسه، بعد ان يهتدي إليه من خلال دليل التلفون، والذي توفي بنزيف في الدماغ، وأخته ادريانا لا زالت تعيش على ذكراه رافضة الإعتراف بموته.
يلتقي ريموند بطبيبة العيون ماريانا حين يذهب لعيادتها لاستبدال نظارته التي كسرت فتقع في حبه وتقوده لمقابلة مناضلين قديمين أحدهما عمها يقبعان في دار رعاية، فيكملان له بقية الحكاية
ماريانا هي خشبة الغريق التي يتعلق بها ريموند، ليخرج اخيراً من روتين حياته القاتل كمدرس لتاريخ اللغات، فتمد له الحبل وتقترح اصطحابه إلى إسبانيا لمقابلة ستيفانيا حبيبة أمادو والتي هربها إلى إسبانيا بمساعدة مينديز كمكافأة له على إنقاذ حياته، وإنقاذاً لها من جورج حبيبها الأول الذي وصلت به الغيرة لا قتراح تصفيتها، لأنها هجرته إلى رفيقه أمادو بعد أن وقعت في حبه من أول نظرة، ولأنها تمتلك ذاكرة خارقة في حفظ الأسماء والعناوين مما يجعلها هدفاً ثميناً أيضاً للبوليس السري.
وهكذا تتسلسل أحداث الفيلم كاشفة عن دوافع ودواخل الشخصيات الموزعة بين الأنانية والإيثار، التضحية وإيثار السلامة، الصمود أو الهرب، وهكذا يكتشف ريموند أن للحياة أكثر من حد، وأنها تتقلب على أكثر من وجه، ولكنها تحسمها الضرورة، يكتشف ذلك حين يقرأ عبارة تشي غيفارا على شاهد قبر أمادو”حين تصبح الديكتاتورية واقعاً تصبح الثورة ضرورة!
وحين يقرر ريموند العودة إلى سويسرا تقول له ماريانا:لماذا لا تبقى هنا؟
وينتهي الفيلم!
وهكذا يتجاوز ريموند غفلته أو أزمته، ويخطو إلى خارج قفص الحياة الداجنة، وإلى خارج زنزانة الفكر الذي يضع القواعد والمقررات، إلى رحاب الحياة الفسيحة، وأبعادها الإنسانية التي تتجاوز إشكالية الثابت والمقرر، وكما أضاءها الفيلم من خلال توقفه عند علاقته بماريانا بعد رحلة بحثه الطويلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى