الملك وترامب.. لقاء البروتوكولات والمفارقات

لم يكن اللقاء بالأمس مجرد اجتماع سياسي عادي، بل كان اختبارًا حقيقيًا للكياسة الدبلوماسية وحسن إدارة المواقف في مواجهة الارتجال والتناقضات. من الملك إلى أصغر مدرك لحجم التحديات التي تواجه الأردن، كان الجميع يدرك أن اللحظة ليست سهلة، وأن كل تفصيل، من الابتسامة إلى هزة الرأس، يحمل في طياته رسالة لا تخطئها العين.
لست هنا بصدد تحليل المواقف السياسية، بل سأتحدث عن البروتوكول، ذلك الفن الصامت الذي يعكس عمق السياسة دون الحاجة إلى كلمات.
الملك، كعادته، كان محترِمًا للبروتوكول، ثابتًا في نهجه، لا ينجرّ إلى ردود الفعل المتسرعة، ولا يسمح للأحداث أن تملي عليه أسلوبه. نزل من السيارة، قدّم التحية بابتسامة للجندي الذي فتح الباب، ثم صافح المستضيف بذات الابتسامة، قبل أن يدعو ولي العهد للانضمام، في خطوة تحمل بُعدين؛ كسر التوتر، وإظهار الثقة والاحترام المتبادل.
قبل لحظات من اللقاء، كانت أجندته واضحة ومتفق عليها بين الطرفين: اجتماع مغلق، لا مؤتمر صحفي، ولا تصريحات علنية، ومدته لا تتجاوز نصف ساعة، يعقبها غداء عمل على شرف الملك. لكن ما حدث لاحقًا لم يكن كما اتُفق عليه.
فيما التزم الملك بقواعد الدبلوماسية، قرر المستضيف كسر الاتفاق بدعوة الإعلام بشكل أحادي، ليحوّل اللقاء إلى منصة لإطلاق تصريحات متناقضة، تفتقر إلى الدلالات السياسية الواضحة أو حتى الأسس القانونية. حديثه بدا أقرب إلى سلسلة من الجمل العابرة، التي لا تستند إلى رؤية محددة، مثل قوله: “عدلنا عن شراء غزة، لكننا سنسيطر عليها”، وعند سؤاله عن السلطة التي تخوله ذلك، أجاب: “السلطة الأمريكية”، وحين سُئل عن موقف أهل غزة إذا رفضوا، كان رده ببساطة: “سيقبلون ذلك!”. تصريحات لم تكن سوى تعبير عن نهج قائم على الفرضيات أكثر من كونه خطة سياسية محكمة.
الملك، بدوره، لم يسمح بانزلاق اللقاء إلى حالة من التصعيد غير المجدي. لم يكن ذلك ضعفًا، بل حسن إدارة للحوار، إدراكًا منه أن المؤتمر الصحفي سبق النقاش، وليس العكس، وأن الدخول في مواجهة مفتوحة لن يكون مثمرًا. لم يهزّ رأسه تأييدًا لأي من التصريحات، وكانت لغة جسده كافية لتوضيح موقفه من دون أن يحتاج إلى مقاطعة أو مجادلة علنية.
السياسة لا تدار بردود الفعل الشخصية، والدليل أن دولًا كبرى مثل كندا والمكسيك، رغم خلافاتها العميقة مع إدارة ترامب، لم تدخل معه في سجالات إعلامية، بل بحثت عن تفاهمات للخروج بأقل الخسائر. الملك كان واعيًا لذلك، فاستند إلى الإجماع العربي، وركّز على الخطة المصرية والعربية لإعادة البناء، مؤكدًا على ذلك مرتين، من دون أن يتحدث نيابة عن أي دولة أخرى، كي لا يصبح لا قدّر الله عدم نضجها والوفاء بها مدعاة علينا لا لنا.
أما في الوداع، فقد بدا واضحًا أن اللقاء لم يكن سلسًا، فالتجهّم ارتسم على وجه المستضيف، والبروتوكول غاب عن اللحظة الأخيرة، حتى إن مغادرة ولي العهد جاءت بطريقة لافتة، وكأنها تعكس أجواء لقاء لم يحقق توافقًا حقيقيًا.
في النهاية، نحن في زمن الفضاء المفتوح، وكل شيء بات مرصودًا وموثقًا, وستبدي لنا الايام ماكنّا نجهله، ولكن على اغلب الظن، أننا نمر في اربعة عجاف، نسأل الله أن يعيننا عليها
فراس رحاحله